مراجعات فيلمية

مراجعة «أيام مثالية» | دراما يابانية إنسانية للألماني فيم فيندرز

كان (فرنسا) ـ خاص «سينماتوغراف»

مع (Perfect Days ـ أيام مثالية) لـ فيم فيندرز الذي عُرض أمس ضمن المسابقة الرئيسية لمهرجان كان السينمائي الـ 76، يعود المخرج الألماني البالغ من العمر 77 عامًا إلى ما أتقنه في بداية حياته المهنية، الدراما الهادئة والتفاعلية والإنسانية للغاية.

 لقد تخلى منذ فترة طويلة عن مثل هذه النوعية من الأفلام، لصالح الأعمال الوثائقية والمزيد من أفلام الخيال السائدة، حيث قدم «كل شيء سيكون على ما يرام» (2015) و «الغطاس» (2017) وهي أفلام تقليدية إلى حد ما، ربما ساعد هجوم النقاد لها في إقناع المخرج بالعودة إلى جذوره.

فيلم فيم فيندرز الجديد، الذي شارك في كتابته مع الكاتب والمخرج الياباني تاكوما تاكاساكي، عبارة عن دراسة شخصية ملتوية ومرحة تدور أحداثها في طوكيو والتي لا تنبض بالحياة إلا في اللقطة النهائية الممتدة لوجه البطل، وهو ينجرف ذهابًا وإيابًا بين السعادة والحزن.

بالكاد تختلف الأيام بالنسبة لهيراياما (كوجي ياكوشو) البالغ من العمر 50 عامًا، يستيقظ في شقته الصغيرة الفقيرة في مكان ما في إحدى ضواحي طوكيو، ويقفز في شاحنته، ويدخل كاسيت، ويستمع إلى الموسيقى الغربية وهو في طريقه إلى العمل، وظيفته هي تنظيف المراحيض العامة (حك حافة الأوعية والمباول، ومسح المرايا، وتلميع الحنفيات، ومسح الأرضية)، يقوم بواجباته بلا هوادة، دون خجل ولا أثر للتردد، وبدون أنين، وفي الواقع هو رجل غير متزوج، ليس لديه أطفال ولا صديق، ونادراً ما يتحدث.

هذا ليس فيلمًا عن شخص غريب الأطوار أو مثير للاشمئزاز يستحق الشفقة، «هيراياما» لا يعيش حياة مختلة. إنه انطوائي ودائماً ما يكتفي بابتسامة خجولة وصادقة، ومنزله على الرغم من كونه متواضعًا – نظيف جدًا، ينام في داخله بشكل مريح محاطًا بأكوام من الكاسيتات الصوتية التي يعتز بها كثيرًا، فلقد عادت الأشرطة القديمة الآن إلى الموضة وتستحق ثروة، كما أخبره تلميذه الصغير تاكيشي. لكن ليس لديه مصلحة في بيعها، لأنه ليس حريصًا على المال، ولا يريد تغيير أي شيء في عالمه الصغير البسيط واللطيف.

يتمتع «أيام مثالية» بنوع من السحر، ويؤسس ياكوشو الفيلم بحكمته وحضوره اللطيفين، ولا يكشف فيندرز مبكرًا جدًا عن بطله ولا يحاول ربط كل شيء بدقة شديدة، ولكنه يهتم بمتع الحياة البسيطة والتموجات التي تسببها الإيماءات الصغيرة، ومنها الموسيقى التي تعد جزء لا يتجزأ من الفيلم، والتي تحقق لـ هيراياما أقصى درجات الاستمتاع، فسماعه لأغاني الروك والجاز تملأ حياته بالإيقاع والبهجة الرقيقة.

ثم تبدأ دراما فيندرز الصغيرة واللطيفة بشكل رائع في إضافة لقاءات عشوائية، لا تهز عالم هيراياما من محوره، ولكنها تتعارض مع أسلوب الزهد في حياته، إحداها هي صديقة زميلته الشابة، التي أصبحت مهووسة بمجموعة الكاسيت التي لديه، وفي وقت لاحق، تأتي ابنة أخته للبقاء، وتقدم له الصحبة في جولاته، وأخيراً يواجه وجهًا مألوفًا في الحانة، ليصبح أكثر ثرثرة، ويشاركه نكتة وحتى يغازل النادل.

 كلها مقتطفات لا تقدر بثمن من الفرح، يعود سبب نجاحها إلى (كوجي ياكوشو) اللطيف، الذي يتحكم في الشاشة بأداء صامت وهدوء معدي، ويكمل بشكل مثالي اتجاه فيندرز البسيط ويضيف عمقًا غير متوقع إلى رسالة الفيلم التي مفادها : «العالم مصنوع من عوالم عديدة، بعضها متصل والبعض الآخر ليس كذلك».

هذا فيلم التفاصيل واللحظات الصغيرة، ليس به تقلبات مفاجئة أو اكتشافات مروعة، ولكنه يمتلأ بالعاطفة الإنسانية، ويترك المتفرج يضع بنفسه قطعة اللغز الأخيرة مع مشهد النهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى