مراجعة «السرب» | عندما يطغى الهدف السياسي على العمل الفني
الفيلم يقدم رواية فنية لعملية مخابراتية
القاهرة ـ «سينماتوغراف»
أثار فيلم “السرب” الذي بدأت دور السينما في مصر وبعض الدول العربية عرضه قبل أيام قليلة، أسئلة كثيرة حول توقيت طرحه بعد نحو ثلاث سنوات من التأجيل، والأهداف التي ينطوي عليها، فهو يعالج عملية الانتقام العسكري من تنظيم داعش في درنة بعد قيامه بذبح 21 قبطياً مصرياً في ليبيا منذ حوالي تسعة أعوام.
وبحث من شاهدوا العمل أو سمعوا عنه من وسائل الإعلام عن فحوى الرسالة الأمنية أو السياسية التي تريد الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المنتجة للفيلم تبليغها، والتي باتت تتطرق إلى الكثير من المواضيع الشائكة بإنتاجها الفني الغزير في الآونة الأخيرة، سواء أكان تلفزيونيّا أم سينمائيا، وفي جعبتها العديد من المعاني والمضامين الداعمة للنظام المصري، وتحاول ترسيخها في وجدان المجتمع.
وجذب فيلم “السرب” انتباه الجمهور من واقع القضية التي يعالجها، وهي ذات أهمية عند شريحة من المواطنين، وتتداخل فيها المكونات الأمنية والدينية لدى من لم يتابعوا خلفياتها وتطوراتها، وطريقة انتقام الطيران المصري من التنظيم الإرهابي في درنة بليبيا.
هذا فضلاً عما يمثله فيلم “السرب” من طرق لأحد الأبواب المثيرة التي تتعلق بعمل مخابراتي صرف، إذ أسهمت الدراما من قبل في معالجة بعض القصص المرتبطة بدور الأجهزة السيادية في الحرب الخفية التي تدور بين مصر ودول وجماعات متفرقة، ونجحت في تقديمها بصورة بارعة، ما جعل دخول السينما إلى هذا المعترك نقلة مهمة، فإذا نجحت في “السرب” يصبح بمقدورها الاستمرار، وإذا أخفقت يمكن أن تنزوي.
وشجعت تجربة فيلم “الممر” (بطولة أحمد عز)، الذي قدم منذ حوالي خمس سنوات وحقق نجاحاً، على تقديم “السرب”، وهو من بطولة أحمد السقا ومحمد ممدوح ومحمد دياب وشريف منير ونيللي كريم والأردنية صبا مبارك ومجموعة كبيرة من الفنانين؛ فالانتشار الذي حققه الأول في نقل رواية عن الحرب طويلة الأمد بين مصر وإسرائيل، فتح الباب لنقل روايات أخرى عن معارك جانبية على جبهات قريبة، تتبنى وجهة النظر الرسمية وترمي إلى ترسيخ الانتماء الوطني والثقة في أجهزة الدولة.
ولاقت قصة قيام تنظيم داعش في درنة بذبح 21 قبطياً في فبراير 2015 اهتماماً بالغا آنذاك، ففضلاً عن بشاعة العملية وتصويرها وبثها على مواقع التواصل الاجتماعي استهدفت فئة من المصريين بغرض ضرب النسيج الوطني وإحداث نوع من الفتنة داخل البلاد، وإثارة غضب المسيحيين ضد النظام، ولذلك جاء الانتقام لهؤلاء سريعا، بما ينطوي على إشارة إلى عدم التهاون في هذه المسألة، ولتأكيد أن الدولة لا تفرق بين مواطنيها، ما منح النظام شعبية، عكس ما أراده التنظيم الإرهابي.
واستخدم الفيلم جانباً من سلاح الطيران المصري الحقيقي وطائرات الرافال لقصف مواقع داعش في درنة، بالصورة التي تحوي استعراضا للقدرات العسكرية ولهذا السلاح بشكل خاص، وكانت عملية درنة أول عملية جوية يقوم بها الطيران المصري خارج البلاد منذ حوالي اثنين وأربعين عاما، ما يؤكد أن الحروب غير النظامية لا تقل خطورة عن نظيرتها النظامية.
وقد تكرر القصف الجوي بعد نحو عامين عندما شن الطيران المصري ست هجمات على مواقع تابعة لداعش في ليبيا، وذلك بعد الاعتداء على حافلة داخل الأراضي المصرية أدى إلى مقتل 28 قبطياً أيضاً.
وقدم فيلم “السرب” الرواية المصرية لحدث بالغ الأهمية بصورة تشير إلى معرفة أجهزة المخابرات كل تفاصيل ما يجري في ليبيا، أمنيا واجتماعيا، وهو السلاح الذي أبرزه الفيلم، بما يعني أن عيون القاهرة تعرف كل كبيرة وصغيرة بدليل نجاحها في زرع أحد عناصرها (علي المصري)، الذي جسد دوره الفنان أحمد السقا، في قلب التنظيم ولعب دوراً في اختراقه ومساعدة أجهزة الأمن على إتمام عملية الانتقام بنجاح.
وبدا الفيلم في بعض مشاهده أقرب إلى العمل الوثائقي أو التسجيلي أكثر منه عملاً فنياً يحمل وجهات نظر متباينة، تختلف أو تتفق حوله، لكنها في إطار التقييم لعمل سينمائي، وهي واحدة من النقاط التي أدخلت “السرب” مربع الرسالة المباشرة المطلوب توصيلها حول حدث حقيقي جرى منذ سنوات، بما جعل التعامل الفني معه صعبا، لأن المعايير اللازمة لذلك تلاشى جزء كبير منها في خضم التركيز على الرسالة الرئيسية والتمسك بنمط رسمي صارم، وكان يمكن ذلك دون أن يشعر الجمهور بأنه يشاهد رواية مصنوعة لتثبيت فكرة أن الدولة لا تتهاون في الدفاع عن حق أبنائها.
وحاول مخرج “السرب” أحمد نادر جلال استخدام كادرات فنية متسعة لأماكن عديدة، غالبيتها في الصحراء، لكن بعضها لم يكن موفقا، وجاء تقديم عمليات القصف الجوي بطريقة متواضعة، على عكس ما قدمه فيلم “الممر” الذي كانت قصته أكثر صعوبة واتساعا، لأن “السرب” اقتصر على واقعة محددة والتعامل معها عسكريا.
ولم تضف نيللي كريم في تجسيدها دور زوجة أمير دولة الخلافة (الفنان محمد ممدوح) في درنة الكثير إلى العمل، لأنها كانت محكومة بمساحة قصيرة الهدف منها إظهار الجانب النسائي في حياة زعيم داعش، وميله المفرط إلى النساء وهو في أحلك أوضاعه المأساوية عندما حاصرته القوات المصرية بالتعاون مع الجيش الليبي في أحد مستشفيات درنة، والذي شيد أسفله نفقا يؤويه ويوفر له ملاذا آمنا، وانتقص ممدوح من دوره بالمبالغة في الانفعال.
كما أن صبا مبارك، الصحافية الليبية الجريئة والمحبوبة السابقة لأمير داعش، رغم هامشية دورها إلا أن تأثيره في الأحداث بدا مهما، فهي تؤمن برسالتها المهنية وتقاوم لمواصلة دورها الوطني، وترفض كل الإغراءات التي قدمها لها عاشقها السابق الذي تحول من الرومانسية إلى أقصى درجات العنف، وتتمسك بمقاومته ولو فقدت روحها.
ويمكن أن يكون فيلم “السرب” فاتحة جديدة في السينما المصرية لتقديم أنواع مختلفة من القضايا الحيوية، شريطة أن تتوافر مساحة كبيرة من الإبداع الفني، والتحلل قليلا من التمسك بالرؤية الرسمية من خلال الاستعانة بمتخصصين يجيدون توصيل الرسالة بشكل غير مباشر، لأن المباشرة تفقد العمل جزءا من بريقه الفني.
وقد اقتربت السينما المصرية من منطقة فنية مؤخراً غابت عنها فترة طويلة، وهي تتعلق بتقديم رواية رسمية لحدث مستقى من الواقع، وهو تحد كبير يواجهه صناع هذا النوع من الأعمال، فهم مطالبون بعمل تتوافر له المعايير الفنية من دون إخلال بالفكرة المرجو توصيلها، وتزداد المسألة صعوبة إذا كان العمل يحوي قصصا أمنية – مخابراتية، تحتاج إلى معالجة ذكية كي لا يطغى الهدف السياسي على العمل الفني.