«مر وصبر» .. وحس التدمير الذاتي
فيلم تونسي يتحدى الشكل التقليدي في تقديم من يعيشون على هامش المجتمع
«سينماتوغراف» ـ تونس: أحمد شوقي
يكاد يكون الملمح الأهم في مهرجان أيام قرطاج السينمائية هو أن إقبال الجمهور التونسي على فعالياته أمر مفروغ منه، حيث يزيد الاهتمام في حالة الأفلام التونسية، التي يتوافد المئات مبكرا لحجز مقعدهم فيها، وحتى في حالة الأفلام التي عُرضت تجاريا بالفعل. أما في حالة الأفلام الجديدة فالأمر يتحول لجنون حقيقي، وساعة كاملة على الأقل يجب أن تقفها انتظارا حتى تتمكن من مشاهدة الفيلم التونسي الجديد.
ومن هذه الأفلام التي عرضها مهرجان قرطاج للمرة الأولى كان فيلم “مر وصبر” للمخرج والممثل الشاب نصر الدين السهيلي، والذي أقيم له عرض وحيد في قسم بانوراما السينما التونسية، تزاحم بسببه المئات لانتزاع فرصة الإطلال على الفيلم الذي لن يعرض تجاريا في تونس إلا بعد أشهر من الآن.
وللوهلة الأولى يبدو الفيلم وكأنه ينتمي إلى أفلام “مدن الصفيح”، صحيح أن الحي الفقير الذي تدور به معظم الأحداث ليس فقيرا لدرجة العشوائيات ومدن الصفيح، ولكن السياق العام للحكاية يدعم هذا التصور عن الفيلم، الذي يبدأ بوصول فتاة بريئة هي حياة (مريم سايح) إلى المدينة قادمة من الريف لتكمل دراستها الجامعية، لتقيم في منزل سيدة تخبرها عندما تسأل حياة عن وظيفتها أنها “تعود للمنزل متأخرا”!
وفي المنزل تبدأ حياة في دخول قصة حب عسيرة مع منير (عاطف بن حسين)، الممزق بين إدمان المخدرات وعلاقة جنسية مثلية وأخرى مضطربة بوالدته وشقيقه. العلاقة التي تسيطر على حياة وتصبح هي المحرك الرئيسي التي تنطلق منه كل دراما الفيلم.
الخيار وتدمير الذات
الفيلم الذي يبدو من البداية أحد أفلام الأحياء الفقيرة بما فيها من صور نمطية كالبلطجي والعاهرة، وارتباط الدراما داخلها بتيمات الجنس والعذرية، يبدأ مع مرور الوقت في إظهار اختلاف وتميز واضح فيما يتعلق ببناء نصر الدين السهيلي ـ الذي كتب سيناريو الفيلم أيضا ـ لشخصياته.
فبينما تُلقي أفلام هذه النوعية عادة المسؤولية على المجتمع وظروف الحياة، وتؤكد دائما على أن البشر ضحية زمانهم ومكانهم، وأن الفقر والحاجة ونمط الحياة العسير هي دوافع دائمة لارتكاب الخطايا، فإن فيلم “مر وصبر” يأخذ منحى مختلف تماما، فرغم أن الشخصيات تقدم على خطايا، وأن كلا منها يعاني من صعوبة في حياته، لكن السهيلي قرر أن تكون الشخصيات وبشكل دائم، مخيرة وليست مجبرة فلم يكن أي من شخصيات الفيلم مجبرا على اتخاذ أي فعل مما قام به في الفيلم، جيدا كان أو سيئا.
لا توجد هنا أمور قدرية، أو ظروف أكبر من إرادة البشر، ولكن هناك رغبة مسيطرة على جميع الشخصيات في التدمير الذاتي. جميع شخصيات الفيلم الرئيسية بلا استثناء شخصيات تستعذب الألم، أو على الأقل تختار في كل مرة توضع فيها في اختبار إنساني، ما يزيدها ويزيد من حولها شقاءً ومعاناة.
فلم تكن “حياة ” مضطرة من البداية أن تقبل دخول علاقة مع هذا الرجل الذي يبدو التشوه واضحا على كل شيء فيه، وهو لم يكن مجبرا على محاولة التقرب منها، ولا العودة لعلاقته المثلية في نفس الوقت، فحياة كان بإمكانها ألا تترك جسدها لمنير، وألا تخبر أمها بما فعلته. ويمكن الاستمرار حتى نهاية الفيلم في سرد أفعال ارتكبتها الشخصيات عمدا مع سبق إصرار غريب على استعذاب الألم الذي لا يلام أحد عليه سوى صاحبه.
قيمة وجرأة وعيوب
لا يوحي الاتجاه المذكور في التعامل مع الشخصية الدرامية بصانع فيلم يمتلك فقط تصورا واضحا عن الحياة وطبيعة المعاناة فيها، ولكنه أيضا يصبح راويا لحكايات ينأى بنفسه عن الشكل التقليدي في تقديم الفقراء ومن يعيشون على هامش المجتمع، رافضا بشكل ضمني التعامل مع أي شخص باعتباره ناقص العقل يمكن أن تكون أفعاله نتيجة لعوامل خارجية، وهي الصورة التي تروجها الكثير من الأفلام العربية وفي ظاهرها الرحمة والشفقة، بينما في باطنها شكل من أشكال الطبقية يعتبر الفقير ناقص العقل رفعت عنه المسائلة.
الفيلم يحمل أيضا بعض الحيوية والجرأة المحمودة، حيوية في الشخصيات الفرعية ولا سيما والدة منير وشقيقه اللذين يديران منزلا للدعارة، وجرأة في تقديم مشاهد الجنس بصورة تحمل هي الأخرى حسا تدميريا ملائما للشخصيات، لا مكان هنا للحسية، بل شخصيات تمارس الجنس وكأنها تنتحر، وهو شعور تمكن نصر الدين السهلي من نقله للشاشة بشكل واضح.
عيبان واضحان
يتبقى عيبين واضحين في الفيلم يجب ذكرهما، الأول يتعلق بالتوظيف المزعج للموسيقى على مدار زمن الفيلم، توظيف أشبه بالدراما التلفزيونية القديمة، التي تحتاج لموسيقى تشرح للمشاهد الشعور الذي يجب أن يمتلكه في هذه اللحظة من الفيلم، وهو أمر تجاوزته السينما الحديثة منذ فترات طويلة.
العيب الثاني هو الأداء الكلاسيكي ـ والنمطي أحيانا ـ لشخصيات يفترض ألا تكون نمطية، فالفتاة البريئة والبلطجي والمثلي جنسيا كلها شخصيات يمتلك المشاهد دائما تصورا مسبقا عن طريقة تقديمها، وعلى المخرج والممثل الجيدين أن يغيرا هذا التصور سواء في رسم الشخصية أو في شكلها على الشاشة، وهو مالم يحدث كثيرا في “مر وصبر” الذي ظهر الممثلون الذين يؤدون الشخصيات الثلاث، وكأنهم جاءوا من مسلسل قديم ليظهروا في فيلم يقدم حكاية “تشبه” ما اعتادوا عليه!
وفي النهاية، يظل “مر وصبر” تجربة سينمائية جادة، تقدم شخصيات معتادة بشكل غير معتاد، وتتعامل مع تشوهات النفس الإنسانية بصورة أذكى وأعمق مما اعتادت الأعمال المماثلة أن تقدمه.