«مسابقة مهرجان برلين».. بين الكلاسيكية والحداثة
«سينماتوغراف»: أحمد شوقي ـ برلين
ثلاثة عشر فيلما تم عرضها حتى اﻻن من المسابقة الرسمية لمهرجان برلين الخامس والستين، تباينت حولها اﻵراء كالمعتاد بين معجب بفيلم وكاره له، وهذا في الحقيقية ما يمنح المهرجانات الكبيرة قيمتها، ويجعل إعلان جوائزها حدثا يستحق الترقب والتوقع.
وبعيدا عن التباين فى الرأي، عكست اختيارات المسابقة لهذا العام تباينا أوضح في الأسلوب بين مخرجي المسابقة، من البديهي أن تختلف أساليب المخرجين، لكن الغريب هو أن تجمع مسابقة واحدة بين طرفي نقيض الكلاسيكية والحداثة كما تفعل مسابقة برلينالي 65، وهو ما سنحاول رصده في التقرير التالي.
قائمة الكلاسيكيين
قائمة أصحاب الأسلوب الكلاسيكي تصدرتها اﻹسبانية إيزابيل كوشيت، مخرجة فيلم افتتاح المهرجان «ﻻ أحد يريد الليل»، والتي انتهجت في فيلمها سردا كلاسيكيا بحتا كان أبرز عيوب الفيلم، الذي يمكنك من الدقائق الأولى وتصاعد صوت الراوي العليم ليمهد للرحلة الخطرة التي تقوم بها البطلة، أن تتوقع مسار الدراما فيه. كل شيء «شرعي» تماما، اجتهاد في تصميم الإنتاج والتصوير والإخراج والتمثيل، لكنه اجتهاد مماثل لما كان من الممكن أن يتم في فيلم صنع في خمسينيات القرن الماضي، مع حساب فارق الزمن تقنيا بالطبع.
أبرز تعثر في الفخ الكلاسيكي كان للمخرج الألماني الكبير فيرنر هيرتزوج، الذي قدم في «ملكة الصحراء» فيلما أمريكيا على الطريقة العتيقة، من بطولة نيكول كيدمان وجيمس فرانكو، عن حكاية امرأة تدعى جيرترود بيل، يقال أنها ساهمت بدور كبير في تقسيم الجزيرة العربية خلال عشرينيات القرن الماضي، بسبب علاقتها الوثيقة بالمخابرات البريطانية وبشيوخ القبائل حتى لقبت بملكة الصحراء. وبغض النظر عن حقيقة لعبها لهذا الدور الهام من عدمها، فمشكلة الفيلم أكبر من مجرد الحقائق التاريخية، هذا فيلم مصنوع بطريقة أصبح حتى المخرجين التجاريين يحاولون الهروب منها.
الفيلم يبدأ بمشهد تقديمي لاجتماع سياسي عن مستقبل الصحراء الغربية، يحضره وينستوت تشرتشل الذي كان لا يزال شابا وعددا من قيادات بريطانيا في المنطقة، ويطرح اسم جيرترود بيل لتسند لها المهمة فيقوم أحد الحاضرين برفض الفكرة وسبها بشكل سيئ، لينتهي الفلاش فوروارد المعتاد، ونعود للماضي مفترضين أننا سندخل مباشرة للموضوع ونعرف إنجازها السياسي، ليترك المخرج كل هذا وينهمك لساعة كاملة في حكاية مستشرقة سخيفة، عن حضورها للشرق ووقوعها في حب سكرتير السفارة خفيف الظل وهما يقرآن أشعار عمر الخيام ويسمعان أصوات الآذان ويتنقلون في البادية الساحرة. علاقة انغمس فيها المخرج الذي يبدو أنه قد أصيب بهوس الشرق أو بالأحرى كليشيه الشرق.
كلاسيكية جيدة
إذا كان الفيلمين يمثلا تعثر النموذج الكلاسيكي، فهناك في المقابل فيلم ممتاز برغم قيامه على أساس كلاسيكي، هو «45 عاما» للبريطاني أندرو هاييه، الذي تبدو عناصره وشكله السردي أقرب للفيلم التلفزيوني منه للسينما المعاصرة: حياة مستقرة لزوجين يستعدان للاحتفال بعيد زواجهما رقم 45، يصل للزوج رسالة بالعثور على جثة حبيبته القديمة التي تركها ثم تزوج، لتنكشف سلسلة من حقائق الماضي تجعل كلا الزوجين يعيد تقييم كل ما مضى من سنوات حياته.
الحكاية كما هو واضح دراما بحتة، تم تنفيذها بميزانية محدودة، لكن لأن هناك مخرج يجيد استخدام أدواته، فكان الارتكان على السيناريو والتمثيل والإيقاع المحكم هو ما جعل الفيلم حتى هذه اللحظة هو الفيلم الحاصل على أعلى تقييم من نقاد مجلة «سكرين»، وهذا أمر يؤكد أن النموذج الكلاسيكي لا يعني أبدا صناعة فيلم خارج الزمن، ولا الميزانية المحدودة بالطبع، فهذا أقل الأفلام ذات البناء التقليدي ميزانية وأسماء نجوم، لكنه أفضلهم في المستوى بلا منازع.
فيلم آخر كلاسيكي هو «كما لو كنّا نحلم» للألماني أندريس دريسن، بسرد ملحمي يمر بعدة مراحل في حياة خمسة من الأصدقاء يعيشون مراهقتهم وشبابهم بعد شهور من سقوط سور برلين وانتهاء عزلة الشق الشرقي من ألمانيا، بعد أن قضوا طفولتهم وهو بمثابة الطلاب المثاليين للمجتمع الشيوعي الملتزم، فوجدوا النموذج بأكمله ينهار، وتنهار معه أحلامهم لينخرطوا في عالم الليل والمخدرات والعنف. يقوم السرد في الفيلم على التقاطع بين الحاضر الملحمي مع مشاهد فلاش باك من الطفولة، بناء روائي معتاد أسفر عن فيلم جيد في بعض أجزاء، متثاقل في أجزاء أخرى.
النقيض.. فيرونكا شيبر وتاكسي بناهي
على الطرف الثاني من المعادلة يقف الفيلم الألماني الآخر بالمسابقة «فيكتوريا» للمخرج سباستيان شيبر، الذي قرر أن يصور فيلمه الذي تبلغ مدته ساعتين وربع، في لقطة واحدة طويلة جدا، فيها فيكتوريا مع الشباب الأربعة التي تعرفت عليهم داخل عالم الليل في مدينة برلين، بين النوادي الليلية وجراجات السيارات التي تحاك فيها الجرائم، حكاية مثيرة وموترة للأعصاب، سواء في مضمونها أو بناءها السردي، أو بالطبع في مخاطرتها الإنتاجية، التي أكد المخرج في المؤتمر الصحفي أنها تمت بدون أي شكل من أشكال التلاعب.
«كنت لن أصدق نفسي وسأشعر بالفشل إذا ما لجأت لحيلة لأصل لقطتين بشكل غير ملحوظ، كان التحدي أن يتم التصوير في لقطة واحدة حقيقية، وقد نجحنا فيه». هذا فيلم ذو حس تجريبي واضح، فحتى لو كان الفيلم/ اللقطة قد صار موضة متكررة آخرها الفيلم الرائع «بيردمان»، فإن مدى صعوبة وتعقد الحركة واتساع موقع الأحداث يبلغ في الفيلم الألماني حدا غير مسبوق.
أما الإيراني المحاصر جعفر بناهي، فقام في فيلمه الثالث بعد صدور الحكم القضائي ضده بعدم مغادرة البلاد وعدم صناعة الأفلام بتجربة جديدة للتلاعب على قرار المنع، بأن صنع فيلم يقوم على قيادته لسيارة تاكسي يركب فيها عدد من الركاب يشكلون حكاية عن المجتمع الإيراني المعاصر، على أن يتم تصوير هذه المواقف بكاميرات صغيرة مختفية في السيارة. هذا حس تجريبي واضح بالطبع، لكن مشكلته أن السيناريو الذي كتبه بناهي لم يأت بنفس ذكاء الفكرة، فافتقد للرابط الموضوعي الحقيقي، وأصبح الفيلم وكأنه أربعة حلقات من برنامج عن مغامرات بناهي سائق التاكسي.
فيلم كلاسيكي الشكل حداثي البناء
أغرب فيلم في قائمة الأفلام الحداثية هو «مذكرات مديرة منزل» للفرنسي المخضرم بينوا جاكو، عن رواية أوكتاف ميربو التي عولجت سينمائيا مرتين من قبل بواسطة المخرجين جان رينوار (1946) ولوي بونويل (1964)، ليعود جاكو ويعيد تقديمها بعد نصف قرن من المعالجة الأخيرة.
فيلم يدور في بداية القرن العشرين، فملابس وديكورات وطريقة حديث المرحلة، أمر يعطي تصور مبدئي بالكلاسيكية، لكن الاختيار الذكي الذي قام به المخرج كان سرد الفيلم بشكل غير خطي non-linear، ينتقل فيه بحرية بين عدة مستويات زمنية لحياة الخادمة سيلستين (تجسدها ببراعة ليا سايدو التي تسير بخطى واثقة لتكون أهم ممثلة فرنسية حاليا)، فنراها في منزل ثم تنتقل لمنزل آخر ثم نعود للمنزل الأول ثم تنتقل لثالث، وهكذا، يرسم المخرج صورة نفسية واجتماعية لفتاة وعالم كامل يحيط بها، دون أن يشعر المشاهد للحظة بالقفزات الزمنية، فالانتقال السلس والمناسب للشحنة العاطفية هو كلمة السر في هذا الفيلم الذي يختلف كثيرا عن التوقعات.
أفلام أخرى تمتلك بناء معاصرا لا يميل للماضي أو للتجريب، وأخرى لا تشبه كل مما سبق كفيلمي تيريتس ماليك «ملك الكؤوس» وباتريسيو جوزمان «زر اللؤلؤة»، اللذان يصعب أن يوصفا إلا بأنهما أفلام تنتمي لمدرسة صنّاعهما. ومن شكل لشكل وأسلوب لآخر، تستمر مسابقة البرلينالي الحافلة لهذا العام، في تقديم وجبات سينمائية متنوعة، ننتظر مشاهدة ستة منها قبل إعلان جوائز الدب الذهبي مساء 14 فبراير.