نجيب محفوظ رائد الأدب السينمائي بامتياز (2 من 3)
ناصر عراق يكتب لـ «سينماتوغراف»
صاحب نوبل يكتب سيناريو فيلم (الله اكبر) ورواية (أولاد حارتنا) في عام واحد!
* هذا ما قاله لي كمال الشيخ عن فيلم (اللص والكلاب)؟
أجل… ظلم نجيب محفوظ في حياته كثيرا… اجتماعيا وسينمائيا، فقد حاول الأوغاد قتله بعد أن أعلنوا تكفيره من جهة، وأقدمت السينما على ابتذال الكثير من رواياته وتقديمها بصورة لا تليق بجسارتها وروحها الفاتنة من جهة أخرى.
تعالوا نواصل رحلتنا مع عالم نجيب محفوظ السينمائي بمناسبة مرور تسع سنوات على رحيله.
أولاد حارتنا والله أكبر
من مفارقات القدر أن رواية «أولاد حارتنا» التى نشرت مسلسلة فى عام 1959 بالأهرام واتهم فيها نجيب محفوظ بأنه يتجاوز اللائق مع الأديان، أقول من المفارقات أن هذا العام شهد عرض فيلم «الله أكبر» الذى كتب له السيناريو نجيب محفوظ نفسه، وهو فيلم أخرجه إبراهيم السيد ويتناول بذكاء كيف استطاع الدين الإسلامى الجديد أن ينتصر بالحب والرحمة والعدل على جبروت حاكم مستبد يعبد الأوثان ويسيطر على إحدى مناطق شبه الجزيرة العربية، ويفرض على أهلها ضرائب باهظة وعذابات مستمرة. أى أن الذين أدانوا «أولاد حارتنا» وقادوا السذج ليقذفوا مبنى جريدة الأهرام بالحجارة، لم ينتبهوا إلى الفيلم الذى كانت دور السينما قد بدأت تعرضه فى 23 مارس 1959، وكيف أن كاتب سيناريو هذا الفيلم رجل مترع قلبه بإيمان كبير! فى فيلم «احنا التلامذة» كتب اسم نجيب محفوظ على الشاشة بمفرده لأول مرة ببنط عريض وخط رقعة جميل بوصفه كاتب السيناريو، ويبدو أن مخرج الفيلم عاطف سالم قد أراد أن يحتفى بالرجل إثر الحملة التى تعرض لها بسبب روايته «أولاد حارتنا» التى كانت تنشر فى ذلك العام، وقد حقق هذا الفيلم – عرض فى 12 أكتوبر 1959 – نجاحا لافتا آنذاك.
بين السماء والأرض والثرثرة
أظنك لاحظت العلاقة الوثيقة بين فيلم «بين السماء والأرض» الذى أخرجه صلاح أبوسيف وكتب قصته نجيب محفوظ خصيصًا للسينما، ولم يكتب له السيناريو- عرض يوم 9 نوفمبر 1959- وبين روايته الباذخة «ثرثرة فوق النيل/ صدرت 1966»، إذ إن الفكرة فى كليهما تنهض على تواجد مجموعة من البشر فى مكان واحد، وما يكتنف ذلك من صراعات ونقاشات تكشف طبيعة الإنسان وضعفه فى اللحظات الحرجة. عند هذا الحد توقف السيناريست نجيب محفوظ عن التعامل مع السينما، واكتفى بعد عام واحد فقط بأن تبتاع السينما رواياته، وتقدمها للجمهور دون أى تدخل منه، فلماذا توقف عن كتابة السيناريو؟ وهل لثورة يوليو وعبدالناصر دخل فى هذا؟ وكيف تعاملت السينما مع رواياته؟
بداية ونهاية
مع آخر يوم من شهر أكتوبر عام 1960 شهد المصريون فى سينما ميامى أولى روايات نجيب محفوظ بعد أن تحولت إلى فيلم حمل الاسم نفسه للرواية (بداية ونهاية)، وقد أقبل الناس على الفيلم بشكل كبير، ليس حبًا فى نجيب محفوظ الذى لم يكن قد حقق شهرة ضخمة عند العامة فى ذلك الوقت، بل بسبب نجمى الفيلم فريد شوقى وعمر الشريف، وربما المخرج صلاح أبوسيف، فى ذلك الوقت كان المصريون يلتفون حول عبدالناصر إثر الشروع فى بناء السد العالى الذى بدأ العمل فيه مطلع 1960، ورغم أن هناك عشرات من الإخوان والشيوعيين «مكومين» خلف قضبان الاعتقال، فإن الشعب المصرى فى مجمله وقف مع الزعيم يناصره ويؤازره حين لمس بنفسه كيف حقق له عبدالناصر أمنيات لم تخطر له على بال.
ترى.. هل نجحت السينما فى إبراز أجمل ما فى روايات صاحب نوبل 1988؟ وهل تمكنت الشاشة البيضاء من تسليط الضوء على ما يحتشد داخل هذه الروايات من أفكار جريئة وآراء مدهشة وخيالات خصيبة؟ أم أنها اكتفت بالتماس مع (الحكاية) من الخارج، فلم يشغل صانعو أفلامه أنفسهم بالغوص فى بحار أعماله الروائية بحثا عن اللآلئ الثمينة والدرر النادرة؟
بحفاوة كبيرة يطل اسم نجيب على الشاشة قبل أى اسم آخر منفردًا ومكتوبًا بخط رقعة جميل ومشفوعًا بترجمة فرنسية، إذ ما إن تنطفئ الأنوار داخل قاعة العرض حتى تضاء الشاشة بهذه العبارة (دينار فيلم تقدم.. بداية ونهاية.. قصة نجيب محفوظ)، ثم تلا ذلك أسماء النجوم فريد شوقى فى دور حسن، عمر الشريف فى دور حسنين، كمال حسين فى دور حسين، أمينة رزق فى دور الأم إلى آخره، أما السيناريو فكتبه صلاح عز الدين.
لكن هناك سؤالا يستحق التفكير: لماذا تأخر صلاح أبوسيف فى تحويل روايات صديقه إلى أفلام كل هذا الوقت؟ لقد صدرت (بداية ونهاية) فى عام 1949، ولم تتسلل إلى شاشة السينما إلا بعد 11 سنة، فهل إدانة الرواية بشكل غير مباشر للعهد الملكى هى التى دفعت السينما إلى التغاضى عنها؟ أم أن صعود عبدالناصر ونجمه دفعا السينما إلى تقديم أفلام تدين العهد الذى سبقه؟ على أية حال فى هذا الفيلم استطاع صلاح أبوسيف أن يستعيد أجواء القاهرة فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى بكل رونقها وبؤسها، لكن ضرورات السينما أباحت المحظورات فاختزل المخرج وقائع وأحداثا ذكرت فى الرواية، وبدل مشاهد ونهايات، ومع ذلك يصح القول إن (بداية ونهاية) أقرب الأعمال السينمائية إلى الرواية الأصلية رغم العتامة التى تفرض ظلها على الفيلم من اللقطة الأولى حتى الأخيرة (بيع أثاث البيت حتى انتحار نفيسة) ورغم خفة ظل فريد شوقى وأستاذه فى الغناء حامد مرسى، فإن القتامة تغلغلت واستقرت.
اللص والكلاب
المرة الأولى التى منح فيها نجيب محفوظ لقبا مميزا فى عالم السينما كانت فى مقدمة فيلم (اللص والكلاب)، حيث كتب اسمه بعد أسماء النجوم والممثلين هكذا (عن قصة الكاتب الكبير نجيب محفوظ)، وحسنًا فعل مخرج الفيلم كمال الشيخ حين أضاف (عن قصة) لأنه أقدم على تغييرات كثيرة لم تكن موجودة فى الأصل الروائى، ولأن عالم السينما له شروطه وقوانينه التى تختلف عن مناخات الرواية، الأمر الذى انتبه له المخرج المتميز.
اللافت للانتباه، أن الفيلم عرض للمرة الأولى فى 12 نوفمبر 1962، أى بعد صدور الرواية بعام واحد فقط، وبعد إجراءات التأميم التى اتخذها عبدالناصر قبل ذلك بأكثر من عام، فهل وجد كمال الشيخ بغيته فى هذه الرواية تحديدًا لأنها تناقش قضية الصراع التاريخى بين الأثرياء والفقراء، وهل من حق المحروم أن يسرق الثرى؟ أم أنه أراد أن يفضح أولئك المثقفين الذين يغيرون جلودهم وفقًا لمصالحهم القريبة، وكم مرّ على مصر الكثير من هؤلاء، خاصة فى فترات التحولات الكبيرة؟ وأنت تعلم أن الستينيات شهدت تحولات مدهشة على جميع الأصعدة، على أية حال حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وأذكر أننى سألت كمال الشيخ فى حوار أجريته معه فى بيته بعمارة الأوموبيليا عام 1997 عن كيف يرى أفلامه بعد كل هذه السنوات، فذكر لى أنه يكن محبة خاصة لهذا الفيلم تحديدًا.