سينما أمريكيةسينمانامراجعات فيلميةنقد

نوح بومباخ… وثلاث شخصيات تستحق التوقف

نوح بومباخ… وثلاث شخصيات تستحق التوقف
(جرينبرج، فرانسيس، برنارد)
سينماتوغراف” ـ  إسراء إمام
 
 يعد نوح بومباخ أيقونة مكتنزة المعطيات. مخرج من المخرجين الذين إذا ذكرت اسماؤهم، أطل معها ذاك الصخب المشحون بعدد من المشاعر المتضاربة. وهذه خطوات متأنية لتناول يقف فيه الحدث ثابتا، مع رهان قوى على التحرك الأفقى لتطور الموقف. بعيدا عن الإنقلابات الواسعة للتوقعات، ومن دون مفاجآت  جديرة بالذكر. ففى فيلم “فرانسيس ها” “francec ha” الكوميدي الذي تم إنتاجه في الولايات المتحدة عام 2012، وكتبه بومباخ مع جريتا جيروج، تبدو نهاية الفيلم، منزوعة الوشايات، تلك التى نتعثر بها قبيل معظم الخواتيم السينمائية. فمشاكل فرانسيس لا تزال منتصبة ومُحدقة بقوة، ومن حولها تلتف كل العناصر المتورطة فى تعقيد الأمور وأحيانا فى تبسيطها، والتى تأتى من داخل فرانسيس ذاتها أو من المحيط المجاور لها.
 
وفى عودة إلى فيلم “جرينبرج” “Greenberg” عام 2010  نجد الحال ذاته، فجرينبرج يظل الشخص المُنهك عصبيا، والمهتز ذهنيا ونفسيا لدرجة أننا لم نكن على ثقة، من وجوده إلى جانب فلورانس (الفتاة التى تعجبه) للمرة الثالثة، لأنه لا توجد ضمانة يُقدمها الفيلم، تجعلنا على استعداد لأن نثق بمدى صحة خيارات هذا الرجل. أما فى “الحبار والحوت” ” Squid and the whale” فإن الهوية، ممسوكة ذات نتوء بارز، بينما يعتمد على خلق عالم يعمل بكد ليُمحى ماهتيه، ويزرع بشخصياته فى منتصفه، تعبر عن نفسها ببوهيمية متطرفة، جامحة، ولكنها رغم كل شىء محسوبة، ومرسومة بعناية مشرط يفصل بين طبقات مساحة واحدة من الجلد.
 
عند الحديث المطول عن سينما بومباخ سنتوقف كثيرا، فهو مخرج يقف على أرضه الخاصة، مطوعا جميع العناصر الفيلمية إلى حذق توظيفاته الجهنمية. وله عدد من المحطات التى ينبغى الوقوف عندها للتأمل، مثل حالة الحوار وكيفية إدارته، وتلك الطريقة البدائية التى تجعل منه مادة مسلية وثرية فى الوقت ذاته. وأيضا طريقة اللجوء إلى الأغنية، واعتمادها بدلا من الموسيقى التصويرية، واستببيان مناطق المفاضلة بينهما على الداوم، فبالرغم من بذخ بومباخ فى إستخدام الأغنية المسجلة، إلا أنه يؤثر فى بعض المواطن اللجوء إلى الموسيقى الناعمة الخافتة. ولكننا بصدد الحديث عن أبرز ما فى التكوين السينمائى الذى يُقدمه بومباخ وهي الشخصيات وبالأخص، شخصية “جرينبرج”، “فرانسيس”، و”برنارد”. الأولى من فيلم “جرينبرج”، والثانية من “فرانسيس ها”، أما الثالثة فمن فيلم “الحبار والحوت”. والترتيب مقصود، فالشخصيات بتسلسل تنازلى تقل حيرة وارتباكا، وإن كانت عند أقل الدرجات غريبة الأطوار.
 
 
جرينبرج
 
هذا الرجل الأربعينى الذى أجاد السيناريو نثر الشائعات حول أزمته النفسية من قبل ظهوره. ولم يهتم أن يوضح لها سببا محددا، بينما ظل وصمه بالخريج الحديث للمصحة النفسية، هو الأكثر إلحاحا. بخلاف جُملة واحدة تجاذبها جرينبرج مع أخوه حول حادثة وفاة أمه،. جملة ممطوطة وغير وافية، تقف خلف هذا الستار المتشابك الذى أعده بومباخ حول الشخصية، وفضل أن يُقدمه على أية عوارض تفصيلية تشرح الماضى.
 
 
حرص السيناريو على تقطير مظاهر الإرتباك التى تبدو على “جرينبرج”، ففى بداية الفيلم، بدا الرجل عاديا، يعانى من بعض التعلثم، وتأخر ردة الفعل. ومن ثم تأتى اللقطة التى يكتب فيها إلى شركة الطيران، شاكيا من عطب أحد الأزرار فى مقعد الطائرة التى استقلها عائدا إلى المدينة. إثر هذه التفصيلة غير العادية، والتى تمر بسيطة، وعامدة فى عدم لفت الأنظار (رغم أنها تكررت، فظهرت كنوع مؤكد من الهوس عند شخصية جرينبرج). تأتى بداية العلاقة بين فلورانس وجرينبرج، بحيث ينتهى موعدهما الأول فى بيتها بالمصادفة، وفى الوقت الذى تخفق فيه محاولة جرينبرج التقرب من فلورانس، يبدو العطب من جهة فلورانس.
 
وبالتفكر بشكل مستقل حول ما قصّه علينا السيناريو من حياة فلورانس (إخفاقها فى طلاقها، ومجافاة ابنتها لها) سنجد أن القيمة الأكبر لهذه الخلفية الخاطفة تقف عند حد مشهد فشل إلتحامهما الأول، فالمتفرج لوهلة، يعاود الإيمان بسلامة جانب جرينبرج، مقابل درجة الإهتزار التى يلمسها من فلورانس، فيتناسى إلى حد ما تفصيلة الخطابات السابق ذكرها. هذه التغطية المتعمدة، على شخصية جرينبرج خلقت حالة صحية جدا من التأرجح حول إنطباع المتفرج النفسى حيالها. لذا فسنجد المُشاهد يقف مبهوتا أمام رفع سقف توقعاته حول الشخصية دفعة واحدة، مع أول المشاهد الحرجة التى تطفو فيها ردات فعل جرينبرج المفجعة، والتى تُنبأ عن أرق نفسى حقيقى ومادى (مشهد الإحتفال بعيد ميلاده). ومن بعدها هياجه غير المبرر حول القصة التى أخطرته بها فلورانس مازحة، حول تمثيلها مرة دور العاهرة على حفنة من الرجال.
 
ذلك التعتيم له أيضا دور فى فتح تساؤل جديد، هل يعتبر السيناريو “جرينبرج” رجلا مضطربا من الأساس. هذا الإستفهام، أعِده من دعامات الطرح بأكمله. بصفة عامة، فإن بومباخ رجل صريح فى تناوله إلى حد الوجع، فهو يعمد إلى إظهار التشوه الذى تعانيه شخصياته بجدارة، ومن غير مواربة، ولكن كنوع من المواجهة التى تفيد بحقيقة ثابتة (وهى أننا لا نخلو جميعا من تشوهات). فشخصيات بومباخ جميعها تعانى من انحراف ما، يغالى هو فى تحريك مياهه الراكدة بإستماتة. ليُعلن عنها فى جرأة، تنافى قدرتنا على إخفاء ما نعانيه بالمِثل ونجيد الإحتفاظ به. وهذا ما تتجنبه معظم شخصيات بومباخ دوما، لا تتوارى، وتبوح عن عدم إنخراطها فى المسير، فتبدو ببساطة غريبة الأطوار. من هذه الشخصيات “جرينبرج” و”فرانسيس” (سيأتى دورها فى الحديث لاحقا).
 
فالسيناريو، من الوهلة الأولى يبدو متعاطفا مع جرينبرج، حتى فى الوقت الذى فضح فيه خباياه غير المستقرة. فخلق أمامه شخصية كفلورانس، المرأة المطلقة التى لاتفقه التعامل مع ابنتها الصغيرة، والتى مهدت طريقا تجد فيه قوة افتقرت إليها من خلال قدرتها على تقبل هشاشة جرينبرج (بنية إيجابية). فمن خلال كلمات بسيطة لفلورانس نستطيع استشفاف موقف السيناريو من جرينبرج ” إنه يبدو مختلفا عنا، أبسط الأمور تؤثر عليه”. وأمام ظِل القلق الذى أصر السيناريو على تواجده صوب جرينبرج حتى آخر مشهد، بُنى سقف متين من الحميمية نحو الشخصية عموما، من خلال لفتات طفيفة، ولكنها ثاقبة الأثر(مثلا محاكاة جرينبرج لكل ما تنصحه به فلورانس، كوضع قطعة من الثياب تحت أنف الكلب. وحِفظه لجُملة أخبرته صديقته القديمة أنها ساعدت فى رفع معنوياتها “أنت إمرأة ذات قيمة”، وهى ذات الجملة التى قالها لفلورانس حينما كانت بصدد عمل عملية الإجهاض). إنه شخصية موهوبة فى الإنصات والتفنيد.
 
جرينبرج، يعد أكثر شخصيات بومباخ تعقيدا من حيث التكوين، والطرح. فالسيناريو لم يكن حاسما بشأنه فى أى موضع، وتركه مشتبكا بضراوة مع عدد من العلاقات والظروف المبهمة من حوله. حالة حادة من التيه خلقتها هذه الشخصية. تفتح العديد من أبواب التأويل، والإستفسارات، التى ستضربك فى كل مرة تعاود خلالها مشاهدة الفيلم.
 
 
فرانسيس
 
فرانسيس شخصية يحبها القلم، وينطلق ليخُط عنها بسلاسة. فهى أخف شخصيات بومباخ روحا، وأكثرها قربا إلى القلب. على الرغم من هالات التجاعيد العديدة المرسومة حول وجودها.
مرة أخرى نعود إلى نظرية بومباخ حول قوة المواجهة. وفرانسيس تحمل على عاتقها وصمة إختلافها بصيغة واضحة. الفتاة الحساسة التى تقع فى شراك علاقة صداقة وطيدة، تبدو فى حُلة خادعة أنها من طرفين. ولكن مع مرور الوقت نكتشف أنها حُمى أحادية الطرف من جانب فرانسيس.
 
 
بغيضة هي محاولة الخوض فى هذه العلاقة التى طرحها بومباخ بين فرانسيس وصديقتها صوفى، وهذا يدلل على جرأة هذا الرجل فى نبش مسائل مرتبكة إلى هذا الحد، يُفسد مغزاها منطق التأويل، وفى الوقت ذاته يفقدها التفصيل شىء من رونقها. وقد تعامل معها بومباخ بشجاعة مقاتل، يدخل أرض المعركة وهو يحمل كفنه على ذراعيه. فبيده خلّف مسافة غامضة حتى ولو بقدر ضئيل حول ماهية مشاعر فرانسيس، قد تدفع أحدهم بالتخمين فرانسيس بمثليتها، وهو ما يطيح ببنية الشخصية والسيناريو أرضا. ولكنه أصر على وجود هذه السعة من التورية، لكى لا يكون المعنى فى متناول الإستيعاب بوفرة تزيد عن الحد.
 
إحساس فرانسيس حيال صوفى، اختزلته فرانسيس فى كلمات ألقت بها فجأة بأحد المشاهد، فى بوح احتفظ بحالته الصعبة المنال بعض الشىء، فقالت ” ما أريده من العلاقة، هو ذلك الإحساس الذى قد تشعر به حينما تنظر لشخص ما فى حفلة يمتلأ فيها الصخب من حولكما فتشعر أنه شخصك فى الحياة، بإحساس خال من الإثارة الجنسية والتملك” (الكلام مُختصر). إحساس فرانسيس بصوفى، يُشابه سعيها الدائم صوب الكمال، والذى يجعلها متعثرة دوما فى خطواتها المهنية، ويقف أمامها عقبة دون تحقيق ممارسة حلمها فى مزاولة الرقص. فهى لا ترضى بالقليل.
 
ولكن بومباخ يصر على أن يبدو الأمر مُحيرا بشتى الطرق، فنجده لا يقف فى صف فرانسيس بهذه العفوية، وإنما يضعها فى خانة شكلية تحض على التربص. فحينما نراقب طريقة سيرها، تحدثها، رقصها. نجدها مُلتزمة بقولبة شكلية لا تُشابه هذا الجمال المتواجد بداخلها. فتبدو كبلهاء طوال الوقت. إلى جانب إصرار السيناريو على تجريدها من الهالة الملائكية التى يمكن أن يسميها بها البعض، فيتكأ إلى ما تملكه بداخلها من حِقد حيال صوفى، لدرجة حديثها عنها فى بعض الأحان بطريقة غير لائقة أمام عدد من الغرباء. إلى جانب، ملامح الطفولة التى تفوح إلى حد النفور من تصرفات فرانسيس وردات فعلها حول كل شىء.
 
 
برنارد
 
إخترت برنارد من بين متاهة فيلم “الحبار والحوت” الممتلئة عن آخرها بالشخصيات المثيرة للإهتمام، لأنه فى إعتقادى الشخصية التى بدأت سلسلة الألم وورطت بها باقى أفراد الأسرة. فهو أساس هذه الحدوتة البائسة، التى بدأت بخراب علاقته الزوجية وإنتهت بتشوه أولاده.
 
كاتب تراجعت ثقته بنفسه، مع تراجع أسهمه وإنتشاره، فى الوقت الذى لاقت زوجته المتجهة للكتابة حديثا رواج فاق حضوره. مما دفعه ليصب لعناته على جُهدها، ويتفه من شأنها، ويغذى دماغ ابنه الأكبر، بنفس المشاعر بالتبعية.
 
مع التوقف عند مشاعر الغيرة التى دفعت برنارد، ليفعل كل ذلك، نجدها فطرية مشروعة ولا غبار عليها (عودة لفكرة، المواجهة.. وإظهار التشوهات بجرأة). ولكن مع تأمل باقى ملابسات حالة برنارد، نجد أن الأمر تطور بصورة مريبة، تدينه لا محالة، على الرغم من أنها لا تخلو من لمحة تعاطف مع محنته. ولكنها على الأقل بدت محنة حقيقية وليست مجرد إختلاف شخصى عن ملامح المجاميع (كما سبق فى حالة الشخصيتين السابقتين).
 
الفيلم يكره برنارد، وكل تفاصيل الكتابة تأكل من نسبة حب المتفرج له، تُكذب ما يقوله، وتمقت تلك الطريقة التى يعتد بها بنفسه. وحتى المساحة التى تركها له السناريو فى النهاية ليعبر فيها عن ضعفه، كانت أقرب إلى الشفقة منها إلى الحب والسلام  النفسى صوبه. كل هذا على الرغم من أن الأحداث لم تُقدم دليلا على هذا السيل من الأحاسيس، من خلال التاريخ الذى قضاه الزوجين معا. تم إقتضاب الحكى عن الماضى (كعادة بومباخ). ولكن فى الوقت ذاته، حسمت موقفها بشكل واضح صوب هذا الأب المُشتت، ناقل العدوى لكل من حوله.
 
برنارد شخصية تفوق جميع شخصيات بومباخ بروزا، لأنها أكثر الشخصيات الذى قسى عليها بدون تردد. ومزعها أمام الكاميرا بدم بارد، ونبرة ثابتة لا تحمل معانى متبطنة.
 
آخر كلمتين:
– لاعبو الأدوار بالترتيب “بن ستيلر”،”جريتا جرويج”، و”جيف دانيالز”. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى