نور الشريف.. و«أنسنة» الشخصيات
«سينماتوغراف» ـ محمد حمودة
الممثل ليس مجرد أداء أو تقمص لشخصية ما .. فالتمثيل ليس تشخيصاً .. والممثل ليس “مشخصاتى” كما كانوا يسمونه فى الماضى .. الممثل الحقيقى حالة .. حالة ثقافية فنية .. حالة من المعايشة .. فعندما يتعايش الممثل مع الشخصية التى يؤديها .. فإنه يستطيع ان يُقنعنا كمشاهدين بخيرها او شرها .. فنتعاطف معها أو نكرهها .. وعندما يتغلغل الفنان إلى اغوار الشخصية .. ويُلملم اطرافها .. فإنه يُكسبها الحياة والمصداقية .. يُكسبها روحاً .. و” يؤنسنُها ” ..فنراها امامنا حقيقية لا مصطنعة .. واقعية لا من نسج الخيال ..
الممثل الحقيقى حالة من الصدق مع النفس قبل الصدق مع الآخرين .. قليل الممثلين من يمتلكون هذه الحالة .. ومنهم او على رأسهم نور الشريف .. احمد زكى .. محمود حميدة .. يحى الفخرانى .. وغيرهم قليل .
ونور الشريف كحالة يجب التوقف أمامها بشىء من التأمل لهذه الحالة الفنية الانسانية .. فهو فنان يتعايش مع الشخصية .. يتشربها – إن جاز التعبير – يدخل إلى اعماقها .. يتعرف على خباياها النفسية و المعنوية .. ويصدقها ويُصادقها .. ثم يُطلق سراحها من داخله .. فتظهر امامنا متكاملة التكوين مادياً و معنوياً ..
لذا فهو لا يؤدى إلاّ الشخصية التى يراها فى داخله .. القابلة للحياة .. الحقيقية غير المصطنعة .. كحسن سلطان فى سواق الاتوبيس .. أو كمال فى الثلاثية .. أو الدكتور سناء فى دماء على الاسفلت .. الضابط الشريف ( رفعت ) فى فيلم ” ضربة معلم ” .. أو الحاج عبد الغفور البرعى فى لن اعيش فى جلباب ابى .. وغيرها من عشرات الشخصيات التى اداها على الشاشتين الكبيرة او الصغيرة .
فى حوار مع الكاتب الكبير ” وحيد حامد ” قال لى ما أثار دهشتى وعجبى فى البداية عن نور الشريف .. غير انه بقليل من التفكير تكتشف انه موقف تلقائى يتسق ويتفق مع قناعه نور الشريف الشخصية كمثقف وإنسان ومع صدقه مع ذاته كإنسان ثم كفنان .. قال وحيد حامد ان دور ” حسن سبع الليل “، في فيلم البرئ، عُرض على نور الشريف فى البداية .. ولكنه رشح احمد زكى لاداء الشخصية لانه رآه الاصلح لها وقد كان توقعه صادقاً كفنان صاحب رؤية .. فهو من اهم اعمال احمد زكى .. لقد رأى بعين الفنان ان الشخصية إلى روح احمد زكى اقرب منه .. وبوعى الانسان الصادق مع ذاته رآها بعيده عنه ..
وفى حوار مع الفنان نور الشريف قال إن تفاصيل شخصية عبد الغفور البرعى .. مستوحاة من عمه الذى رباه .. لقد عاشت الشخصية بداخله .. اختزنها لسنوات حتى خرجت للنور بكل هذا الصدق .. و بكل هذه التلقائية فى الاداء ..
ان نور الشريف من هذا الصنف من الفنانين الكبار ممن يكسبون الشخصيات المكتوبة على الاوراق روحاً .. ثم يكسونها لحماً تسرى فيه دماء نابضة بالحياة .. إنها القدرة على ” أنسنة الشخصيات المكتوبة او المُتخيلة ” و لهذا تبقى ادواره محفورة فى الذاكرة بصدقها .. تتجاوز حدود العمل الفنى اياً كان نوعه .. بل تتجاوز حدود الواقع .. ومن ثم تتجاوز حدود الزمان و المكان .