مراجعات فيلمية

«هاكسو ريدج».. لا مساحة لهروب المشاهد

 ـ محمد جابر

لا مبالغة إن قيل أن قيمة ميل غيبسون، والتقدير الذي يناله كمخرج، أكبر كثيراً مما يناله كممثل. فعلى الرغم من حضوره أمام الشاشة فيما يقارب الخمسين عملاً، إلا أنّ القليل منها هو ما يذكر، في مقابل 5 فقط من وراء الكاميرا كان بينها حصوله على الأوسكار كأفضل مخرج في منتصف التسعينيات مع Braveheart، وإثارته لجدل لا يُنسَى بفيلم مهم مثل The Passion of the Christ. وأخيراً، فيلمه الحالي هاكسو ريدج Hacksaw Ridge الذي يعرض في دور السينما، ويعتبَر من أهم الأفلام الحربية التي ظهرت في السنوات الأخيرة.

فيلم غيبسون الجديد، هو رسالة حادة وعنيفة وقاسية جداً ضد الحرب. تدور أحداثه عن قصة حقيقية جرت خلال الحرب العالمية الثانية لديزموند دوس، المتطوع في الجيش الأميركي الذي يفاجئ قادته بأنه لا يرغب في حمل السلاح، ويفضل أن يكون مسعف حرب ينقذ الناس بدلاً من محارب يقتلهم. الأمر الذي لا يفهمه زملاء دفعته الذين يعتبرونه جباناً ويعاملونه بعنف، وأيضاً قادته الذين يعتبرون الأمر خيانة. وكإجراء أقرب للإعدام، يقررون أن يذهب دوس إلى الحرب، وتحديداً معركة “أوكيناوا”، دون سلاح على الإطلاق، ويصبح بقاؤه على قيد الحياة يحتاج لمعجزة.

andrew-garfield-in-hacksaw-ridge-2016

الفيلم يكاد ينقسم لجزئين بوضوح شديد. في الأول، نتعامل فيه مع دوس، ونقترب منه في مرحلة مضطربة جداً من التاريخ كبداية حرب عالمية. نرى حياته وعلاقته بوالده وطبيعته المسالمة التي ترى في الحرب شرّاً محضاً، لا يكفي أن تقف منه على الحياد، بل يمكن أن تكون فاعلاً ضده. قرار الذهاب للجيش يزيد تعاطفنا مع دوس، خصوصاً مع العنف الذي يلاقيه هناك. نشعر في تلك المرحلة كأننا في النصف الأول من فيلم “إصلاحية شاوشانك” مثلاً. نسيرُ مع البطل المسالم في بيئة قاسية جداً، حيث الكل يرفضه ويتعامل بسخرية ذكورية وعسكرية مع فكرة أن هذا الجبان لا يريد أن يقتل أحداً على الرغم من كوننا في حرب. وهي مرحلة، رغم تقليديتها، إلا أنّها فاعلة ومؤثّرة جداً، على الأغلب بفضل أندرو جارفيلد الذي كان اختياراً رائعاً في دور دوس، وقدّم في الفيلم أفضل أداءاته على الإطلاق. فهو يبقي دوماً على رابطٍ من الاهتمام والانفعال العاطفي بين المتفرّج والشخصية. وفي نفس الوقت، يحافظ على شعرة قوية للغاية، بين تناقض وجود دوس في أكثر لحظات انكساره وقوته في آنٍ واحد.

sam-worthington-in-hacksaw-ridge-2016

بعد ذلك، يبدأ النصف الثاني من الفيلم، مع الذهاب لمعركة “أوكيناوا”. وفيه يكرر ميل غيبسون مرة أخرى ما فعله قبل 12 عاماً في فيلم “آلام المسيح”، في محاولة نبذ العنف عن طريق الكثير من العنف. ومن الصعب فعلاً للمشاهد أن يتذكر مشاهد حربية منذ فيلم “إنقاذ الجندي ريان” عام 1998 أكثر قسوة ودموية مما يفعله جيبسون هنا. فنحن، تماماً كما دوس، نذهب إلى المعركة دون سلاح، نشاهد من حولنا جنوداً يحترقون، وجثثاً متفحمة، ووجوهاً مشوهة بالكامل، وأشلاء تخرج من أجساد أصحابها. يعمد غيبسون إلى التركيز على ذلك، وعدم ترك أي مساحة هروب للمشاهد مما يراه على الشاشة. فهو يقرّبنا لدرجة أنّنا نشم بارود الحرب والدماء ورائحة شواء البشر. وفي سياق ذلك، لا يجعلنا ننسى دوس، ليس فقط لأنه البطل، ولكنه الشخصية التي نتمثلها أكثر أمام تلك القسوة، فيزداد تقديرنا لقراره في عدم حمل السلاح، وارتباطنا بكل محاولة إنقاذ يقوم بها لجندي يموت.

sl7cvhjixrclv16oylxb0wkaci7

في القصة الحقيقية، يتم تكريم دوس بعد انتهاء الحرب، إذ يدرك الجميع كم كانت شراً محضاً. فيصبح “المسعف السلمي” هو البطل الوحيد في تاريخ العسكرية الأميركية الذي لم يطلق رصاصة واحدة. ورغم قوة ذلك العنصر واحتفائيّته بنموذج أميركي، إلا أن خيارات غيبسون الأساسية الواضحة كانت في نبذ الحرب من خلال الشخصية وليس مجرد الاحتفاء به، وفي ذلك كانت كل خياراته الإخراجية والبصرية ممتازة جداً لخدمة ما يريده، وتحديداً في قدرته على دمج الجانب الذاتي من الحكاية عن دوس، والجانب الكارثي الذي يخص العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى