«وحلة» .. عن ماهية الحب وتأثيره على العلاقات الإنسانية
تونس ـ «سينماتوغراف»
السلطة الأبوية في المجتمعات الذكورية، هي سلطة خانقة، قد تتحول إلى سلطة قاتلة، تقتل في الإنسان كل محاولات “الذاتية” والتفرد والتخلص من المفروض وسلطة الآخر عليه، لكنها قد تواجه أيضا تمردا عاصفا، يضرب عرض الحائط بكل ضوابطها وتهديداتها، كما هي الصورة التي ينقلها لنا الفيلم التونسي “وحلة” للمخرج نادر الرحموني.
فيلم “وحلة” لنادر الرحموني، هو العمل الروائي الطويل الأول في رصيد هذا المخرج الذي نشأ وتربى على الفن المسرحي منذ طفولته. هذا العمل، تمّ عرضه خلال الدورة الثالثة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، ولم يظفر بأي جائزة للمهرجان.
والفيلم من بطولة ريم الرياحي ومهذب الرميلي ومحمد مراد وسلمى محجوبي وفارس عبدالدايم.
و”وحلة” هو لفظ دارج في تونس ومعناه “ورطة”- إن صح التعبير- والفيلم هو بالفعل كما يصفه عنوانه “وحلة” وجد البطل نفسه فيها، وهي “ورطة” أو مشكلة شديدة الخصوصية لأنها تضعها في مواجهة مباشرة مع أقرب الناس إليه، والديه.
وتدور أحداثه حول الشاب ياسين وهو طالب في الطب وله مستقبل واعد ويتمتع بحياة مثالية تقريبًا من منظور المجتمع، ومع ذلك، فإن حقيقة وجوده تخفي ظلالًا عميقة، أهمها شغفه السري بالموسيقى التي يمارسها دون علم والده. بين أب متسلّط وأم خانعة وكئيبة، وأخ طائش في وسط هذه العائلة مختلة الموازين، تمكن ياسين، من الحفاظ على توازنه، إلا أنّ شغفه السري القوي بليلى، زميلته الطالبة في الجامعة، هو الذي قلب هذا التوازن غير المستقر، إذ بعد اجتماع مباشر ومصادفة في أروقة مدرسة الموسيقى، تعود الشابة إلى حياتها مباشرة، وتدفعه، دون أن تعرف ذلك، إلى تساؤل وجودي عميق عن ماهية الحب ودرجة تأثيره على العلاقات الإنسانية.
تُستهلّ اللقطات الأولى من الفيلم بمشهد العصافير داخل القفص، وربّ العائلة يعتني بها ويطعمها، ثمّ يُحكم إغلاق القفص. وهذا المشهد للعصافير سيتكرّر في أحداث الفيلم لكن مع العائلة. فهذا الأب المتسلّط والعنيف يُحكم قبضته على العائلة كما لو أنها عصافيره المسجونة في القفص. فعلاقته بزوجته هي علاقة اتصال وتوتّر مستمر. فالزوجة تقضي نهارها في شؤون المنزل لكن الزوج غير عابئ بجهودها في رعاية الأسرة، وحتى معاملة الأبناء من قبل الأب مختلفة وتتسم بالمفارقة: فالأب يتعامل بلين مع ابنه الأصغر رغم أنه فتى طائش مع أنه مقبل على امتحان الباكالوريا، لكن في المقابل تبدو معاملته لابنه الأكبر المستقيم أكثر صلابة وخشونة.
وتتميّز الحالة العائلية بالسكون والجمود والتوتّر، فهي قليلة الحوار فيما بينها. وهذا السكون والجمود العائلي أظهرته عدسة الكاميرا بمشاهد ثابتة وغير متحرّكة وبلقطات قريبة جدّا لإبراز ملامح الشخصية وتبيان حالتها النفسية.
ويبرز التحوّل في الأحداث داخل الفيلم في ظهور شخصية مالك الطبيب النفسي الذي يُهدي جمال (الأب) كتابا من تأليفه يحمل عنوان “لا”، فتطلع عليه الزوجة ويجعلها تغيّر من سلوكها رويدا رويدا نحو محاولة التمرّد على سلطة الأب وعنفه. وأما التحوّل الثاني في الأحداث فيتمثّل في دخول شخصية “ليلى” الطالبة الجامعية في حياة “ياسين” فتدفعه كذلك نحو التغيير والخروج من قوقعته وانزوائه.
ومن خلال هذيْن التحوّليْن في الأحداث، يُحاول المخرج نادر الرحموني إثارة نقاط استفهام حول درجة الحب وتأثيره على العلاقات الإنسانية وكذلك درجة اللاحب وتأثيره أيضا على العلاقات الإنسانية.
وتنتهي أحداث الفيلم بتمرّد الابن على سلطة والده، وقد تجسّد في تحرير العصافير من قفصها، ثمّ تتوالى الأحداث بسرعة ليظهر ياسين مع قيثارته ويظهر والده في حالة مرضية لكنه يلقى معاملة حسنة من أبنائه.