أحداث و تقارير

يفتتح «شرم الشيخ السينمائي»: «فرانتز».. في الحب والحرب الأحياء يتعذبون أكثر

امنية عادل حسينـ  أمنية عادل

قال جبران خليل جبران أحد شعراء المهجر الكبار «النصف هو أنت عندما لا تكون أنت؛ لأنك لم تعرف من أنت، النصف هو أن لا تعرف من أنت.. من تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه».. ما يرمي له جبران هو أنت حينما تكون في نظر الآخر والآخر حينما يكون في نظرك، فهل أنت والآخر تمثلان وجهان لعملة واحدة، وتجمع بينكم روابط خفية لا تراها العين ولكنها تظل كامنة بأعماق النفس الإنسانية المعقدة، لدى المخرج والفرنسي فرانسو أوزون رؤية خاصة حول العلاقة الأزلية التي تعود جذورها إلى الأخين قابيل وهابيل حينما قتل أحدهم الآخر، حتى اكتشف أنه قتل نفسه ولم ينه على أخيه فحسب.

فيلم أوزون الذي يحمل عنوان «فرانتز ـ Frantz» ويفتتح بعد غد فعاليات الدورة الأولى لمهرجان شرم الشيخ السينمائي، يقدم جرعة مكثفة متباينة حول ما تراه العين ويشعر به القلب نحو النفس والعدو، ففي صورة هادئة وبألوان أحادية «الأبيض والأسود» يطرح أوزون، تساؤلا إنسانيا بحت وهو، هل يظل العدو عدوا أم يتحول إلى حبيب ومخلص؟..

سرد متداخل

خلال قرابة الساعتين يشير أوزون الذي عكف على كتابة قصة الفيلم إلى جوار فيليب بيازوا، وذلك من رحم مسرحية «الرجل الذي قتلت» التي تعود إلى الكاتب البريطاني ريجينال بركيلي، ورغم معالجة تلك المسرحية قبلا في أكثر من عمل سابق إلا أن أوزون يقدم رؤية جديدة خاصة حول تيمة الإنسان والحرب.

HTFile

في ضوء علاقة شائكة تربط بين شاب فرنسي يدعى صداقته مع نجل عائلة ألمانية، فقد هذا الشاب في الحرب العالمية الأولى بداية القرن المنصرم، تتلبور متغيرات النفس الإنسانية، ويستعرض أوزون من خلال سرده للأحداث كيف يمكن للإنسان أن يتوائم مع عدوه ويخلق بينهم حالة من الحب والود.

تركن قيمة سرد فيلم «فرانتز» إلى اللعب بالمشاهد والحدث على حد سواء، فلا يكتشف المشاهد ما يخفي «أدريان» هذا الشاب الفرنسي، وشعوره القاتل بالذنب لقتله شاب ألماني يوازيه في العمر، ويختلق أحداث متخيلة لتعزية تلك الأسرة الألمانية التي فقدت إبنها الوحيد.

الواقع والمتوقع

وبعيدا عن صخب الحرب وأصوات المدافع والرصاص التي لا تجد لنفسها مجالا واسعا بالفيلم، رغم تصنيفة أنه فيلما حربيا، إلا أن صمت ما بعد الموت والضرب هو ما يخيم أكثر على روح العمل، ويظل الأحياء هم من يتعذبون بمن ماتوا.

يضرب «أوزون» بفيلم نظريات المواطنة والقوميات عرض الحائط ويعلي من صوت الإنسانية الخالصة، فأدريان الذي يشعر بالذنب لقتل عدوه، في مقابل «آنا» تلك الخطيبة الثكلى التي أحبت خطيبها وتواعدا على إكمال الحياة معا، وبهدوء تام يغزل «أوزون» الحائز على جائزة برلين مرتين، فيلمه ببراعه، ويحول رؤية الآخر.. العدو، في رومانسية خاصة تعزف على أوتار الروح المتخلصة من مثقلات الحياة المادية وما تخلفه الحرب من حقد وغضب.

frantz (1)

وقد يظن المشاهد في بداية مشاهدته للفيلم بأنه فيلما تقليديا عن الحرب والعلاقة بين العدو والمدافع وقد تنتهى بإندماج الطرفين، كما يشار له في علم الأنثروبولوجيا، بانصهار آنا وأدريان بقصة حب خاصة، ولكن نجاح الفيلم يكمن في تخيب آفاق توقعات المشاهد وإحلال توقعات مفاجئة تزيد من تفكير المشاهد وتعاطيه مع الأحداث.

27442-Frantz_1

بناء الفيلم وتكوينه السردي لم يكن بمعزل عن الصورة السينمائية، حيث وظف أوزون تقنية الأبيض والأسود، للإشارة إلى حياة العدم التي باتت تخيم على الجميع، فالحرب أفقدت الحياة مذاقها وألوانها المبهجة، التي أعادها بخفة مع نسمات الحب المأمول، وظلت الألوان في رحلة عابرة حتى استقرت في النهاية لتعيد الحياة إلى روح آنا، مع ذكرى كل من خطيبها الألماني وحبيبها الفرنسي.

رحلة البحث

رومانسية الفيلم تشبه ما أشار له أفلاطون في نظرية عن الحب، حيث الحب العذري الذي لا يشتهي الجسد ويسعى إلى غذاء الروح، فرحلة أدريان الذي يأتي إلى ألمانيا باحثا عن عائلة فقيد الحرب لمواساتها تقابله رحلة آنا للبحث عن حب مرجو في أدريان، ولكن كما هي الحرب فالإنسان لا يرى إلا وجها واحدا من الحقيقة، يصطدم معها بالواقع.

C485d4bUYAAN9Pi

الأبيض والأسود

يمنح غياب الألوان وحضور الأبيض والأسود شاعرية خاصة وخصوصية للعمل، فإلى جانب أنه يدور في عام 1919، يقدم اللونين النقيضين مساحة لتأمل القصة ذاتها والغرق في التفكير بروح آنا وأدريان، ويظل «فرانتز» هذا الجندي الألماني الغائب الحاضر دائما يحول في عقل المشاهد بينهما، ففرانتز هو القضية والدم والموت والحرب، التي فرقت بين شعبين ورسخت لمفاهيم الكراهية والحقد.

كلاسيكية العناصر

إلى جوار كلاسيكية الأبيض والأسود خيمت الكلاسيكية على عناصر العمل الفني الأخرى، حيث إستعان أوزون بفريقه المعتاد في أغلب أعماله، وكانت الموسيقي للفرنسي «فيليب رومبي»، بجملها اللحنية الهادئة خلفية خاصة لمشاعر الشخصيات ومجريات الأحداث المتسارعة والمتغيرة، كما اتسمت كاميرا «باسكال مارتي» بالتعبير عن لحظات الثقل والخفة في روح الأبطال، وهو ما نقل للمشاهد مراحل تطور العمل رغم قلة الحديث نسبيا.

frantz

لا يعتمد فيلم «فرانتز» على المكشوف بل عن المسكوت عنه وكيف للكذب أن يكون ملاذ النجاة أحيانا، لهذا جاء مونتاج «لورا جارديت» معبرا عن الخفي والظاهر، موظفة الكلاسيكية الحداثية التي يسير الفيلم بدربها، وحافظت على إيقاع العمل وروحه الناعمة.

وكعادة عناصر الفيلم لم يكن التمثيل عنصرا صاخبا، فالفيلم يرصد تحولات ما بعد الحرب، بعد استنزاف الحروب للروح ومحاولة لملمة ما بقي منها لهذا جاء التمثيل على قدر الإنفعالات البسيطة معتمدا على الملامح والنظرات المطولة والموحية، وإختيار الشخصيات ساهم في ترسيخ معنى الفيلم الحقيقي، فالفرنسي بيري نيني، الذي قدم من قبل عدد من الأدوار أبرزها شخصية المصمم الشهير سانت لوران وظف ملكاته التمثيلية في شخصية أدريان، التي إتسمت بالحساسية الشديدة وعذوبة الروح واستطاع من خلال صوته وأداءه أن يعبر عن روح أدريان وتقلبات نفسه وضميره الذي سكن في النهاية إلى التكفير عن ما اقترف من ذنب.

frantz.20170102160857

فيما قدمت الحائزة على جائزة أفضل ممثلة شابة بمهرجان فينيسيا عن دورها بفيلم «فرانتز» الألمانية «بولا بيير»، أداء شاعري أيضا، لم يخلو من اللحظات المؤثرة التي تعاطف معها المشاهد.

يعتبر «فرانتز» فيلما عن التحول والمستقبل وليس الماضي كما يتضح من بدايته، فالحرب لم تكن إلا خطوة للأمام، مشيرا إلى أن الفوضي يمكن أن تخلق عالما جديدا لا يتوقعه أحد، كما تخلصنا من توقعات كنا نرى أنها حقيقة عالمنا، لتبقي النظرة حول ما هو قادم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى