«يومان وليلة».. فيلم ينتصر للإنسان
«سينماتوغراف» ـ جايلان صلاح
الوصول للعالمية يحتاج أن يكون الإنسان مفرطاً في المحلية، فالقصة ذات الطابع الخاص جداً بالبلد التي خرجت منها هي القصة ذاتها التي تحمل بين طياتها أناس حقيقيين، بلا شبهة إدعاء أو زيف. أولئك البشر الذين يحملون طابعهم الخاص، هم في الحقيقة يشبهوننا مهما اختلفنا إنسانياً وعقائدياً وعرقياً، لأن المشاعر والانفعالات واحدة. فقصة ساندرا في فيلم «يومان وليلة» 2014 للأخوين جان بيير ولوك داردن، قصة بلجيكية صميمة لكنها أيضاً صالحة لجميع البلاد، بانحيازها للإنسان في المقام الأول، والإنسانية بمفهومها الأعم، حقق «يومان وليلة» ما قد تعجز عنه آلاف المقالات والخطابات الوعظية، وشدد على أهمية التراحم والتآلف بين البشر في ظل عالم رأسمالي يسحق الضعيف ولا ينتظر أحداً أو يمد إليه يد العون.
يضعنا الأخوان داردن في مأزق أخلاقي مخيف. يورطا المشاهدين في أزمة ساندرا، ولبساطة الفيلم وسلاسة صنعه، بطريقة لا تجعل المشاهد قادراً على أن يحيل عينيه عن الشاشة طوال مدة العرض (100 دقيقة)، يتساءل المشاهد رغماً عنه «ماذا لو…؟ ».
الفيلم يضعنا في مكان ساندرا، حيث يتبنى وجهة نظرها، لكنه أيضاً بعرضه لوجهات النظر المتعددة لزملائها، يتلاعب بضمائرنا، ورغم تعاطفنا الواضح مع ساندرا، إلا أن المرء لا يمتنع عن أن يتساءل عما قد يفعل لو كان مكان أي من زملائها، خاصة أولئك الذين رفضوا دعمها مرغمين لظروفهم الاجتماعية؟، هل الإنسان مكره إلى هذا الحد على تخليه عن أخيه الإنسان؟، هل الأزمة الأخلاقية التي يضعنا فيها الفيلم تشي باختفاء الإنسانية رويداً من العالم الممتلئ عن آخره بالأناس؟، أم أن قسوة الحياة في ظل مجتمعات رأسمالية لا ترحم هي التي تقولب الإنسان حيثما تقتضي المصلحة؟ ساندرا ستفقد وظيفتها لو صوت جميع زملائها في صالح حصولهم على علاوة ألف يورو. وأمامها يومان وليلة حتى بداية أسبوع العمل لتقنع أولئك الزملاء بتأزم موقفها وتطلب منهم أن يصوتوا ببقاءها بدلاً من حصولهم على العلاوة.
يستعرض الفيلم ردود الأفعال المختلفة، والحالات الاجتماعية المتباينة لأولئك الزملاء، فمنهم من يعول أسرته وتمثل تلك العلاوة له فرصة حقيقية، ومنهم الأم التي تربي أبنائها منفردة وتحتاج للعلاوة لتغطية كافة مصاريفهم بعد انفصالها عن الأب، ومنهم من تم تعيينه جديداً ويخشى أن يتم فصله. جميع الظروف إنسانية بحتة، حتى أولئك الذين قابلوا طلب ساندرا بلا مبالاة كانوا في حقيقة الأمر يتصرفون من منطلق شعور طبيعي لدى كافة البشر؛ الذاتية.
باستخدام شريط الصوت في براعة، يجعل الأخوين داردن لصوت كعبي حذاء ساندرا وهما يدقان على الأرض، مصدر لترقب المشاهد وتوتر أعصابه. فصوت الكعبين على الأرض يدل –حتماً- على وصول ساندرا لزميل جديد، وبالتالي رهان على كسبها أو خسارتها صوتاً. المفجع أن الرهان هنا على مستقبل ساندرا واستقلالها الاجتماعي والأسري، التصويت في صالح أو ضد ساندرا، سيفقدها وظيفتها وبالتالي استقرارها المادي والنفسي. ساندرا مريضة بالاكتئاب، وهو ما أدته ماريون كوتيلارد بعبقرية مدهشة، فهي إما منهارة تماماً، أو تسير بقناع جليدي متماسك بأثر مضادات الاكتئاب، والتي تعتمد ساندرا عليها اعتماداً كلياً لتتصرف بطبيعية، ولئلا ينتهي بها الحال كومة منهارة على أرضية المنزل.
ورغم وجود زوج يدعمها بشكل رائع، وزميلة مخلصة وهي جولييت، إلا أن تماسك ساندرا يتهاوى كلما واجهت إحباطاً أو تعرضت للإحراج بسبب لامبالاة أو قسوة زملائها الذين رفضوا التصويت لها لسبب أو آخر. نهاية الفيلم، تنتصر للانسان، تلك الروح التي ترفض أن تنثني حتى مع هزيمتها أمام طوفان الرأسمالية الجارف. وفي المشهد الذي يكلم المدير ساندرا شارحاً لها أن عمل 17 ممكن أن يقوم به 16 ما هو إلا وسيلة من وسائل الرأسمالية لتجريد البشر من آدميتهم وتحويلهم إلى مجرد أرقام، مما يجعل الفرد ترس في آلة، وليس وحدة متفردة قائمة بذاتها.
سيثير هذا الفيلم التساؤلات لدى كل إنسان وضع في أزمة أخلاقية بسبب عمله، ومن ذكاء الفيلم هي النهاية الواقعية التي تبعد كل البعد عن تجميل الواقع القبيح، وإن كانت تظهر أن مع كل هذا القبح فإن روح الإنسان شديدة الجمال، شديدة الصمود أمام محاولات استهلاكها وتعليبها لملء فراغ أو زحزحتها من على الجدار لتسقط في الفضاء الواسع.