«بين شقيقتين».. اورنيلا وتريزا والمخرج ثالثهما
«القاهرة» ـ أحمد رشوان
اكتست العديد من الأفلام الوثائقية بالصبغة الذاتية في السنوات الاخيرة، وصارت الأفلام الوثائقية الشخصية التي شكل صانعيها وأسرهم وأصدقائهم الشخصيات والموضوعات الرئيسية لها ملمحا هاما بدا ملموسا في الأفلام التي تعرضها المهرجانات السينمائية الوثائقية المتخصصة.
في الفيلم الوثائقي الطويل «بين شقيقتين» لا يكتفي مخرجه الإيطالي مانو جروسا من أن يجعل أمه وخالته المسنة هما الشخصيتان الرئيسيتان للفيلم، بل تجاوز ذلك محاولا سبر أغوار تلك العلاقة المعقدة بينهما.
ربما تعقيدات هذه العلاقة حينا وطرافتها حينا آخر هي ما أصبغ على الفيلم دراما مثيرة كثيرا ما نفتقدها في الأفلام الوثائقية. كما أن عالم الكبار بجمالياته وتفاصيله أضفى على الفيلم إيقاع خاص وحميمي. الحياة بين اورنيلا وتريزا شديدة البطئ ولكنها تحت السطح تخفي توترا تستشعره كاميرا جروسا وتنقل لنا هذا التوتر دون أن نفهمه في البداية. هذه الكاميرا التي كانت تلعب دور المراقب لكنها سرعان أصبحت متورطة كشخصية ثالثة ألا وهي شخصية مخرج الفيلم مانو جروسا «الإبن / إبن الأخت».
منذ المشهد الأول الذي تقوم فيه الأم أورنيلا (64 عاما) بصباغة شعر الخالة تريزا (85 عاما) التي تشكو وتعاني ضيقا غير مبرر لا يعرفه إلا من تعامل مع الكبار في هذه المرحلة. لقد اختار جروسا هذا المشهد الافتتاحي ليصعد – ونصعد معه كمشاهدين – الدرج المؤدي لكشف طبيعة العلاقة بين الشقيقتين. فقد أصبحت تريزا تعتمد اعتمادا كليا على شقيقتها الصغرى أورنيلا في إدارة كافة أمورها الحياتية.
المراقب.. المتورط
بعد هذه المشاهد الافتتاحية الكاشفة للعلاقة بين الشقيقتين، تظهر عناوين البداية مع لقطات أرشيفية لصانع الفيلم وهو طفل صغير مع أمه وخالته وهما تلهوان في البحر. نعود للزمن الحالي ليقل جروسا أمه وخالته للمدينة الساحلية «سينيجاليا».
من المشاهد الجميلة أثناء استلقاء الشقيقتان على السرير حينما تسأل تريزا شقيقتها عما يفعله جروسا، فتجيبها بأنه يصورهما بالكاميرا، ويؤكد جروسا نفس الاجابة، ولكن تريزا تكرر سؤالها مرات ومرات، بينما تنهض الأم وتقول أنه سيصنع عنا فيلم كوميدي، وسيكسب من ورائه ثروة، فتغرق تريزا في الضحك وتقول أنه سيصنع عننا فيلم «إباحي»؟، والأم تضحك وهي تؤكد انه فيلم كوميدي وليس «إباحيا».. ثم يقطع في لقطة أقرب على الخالة والأم وهما مستغرقتان في النوم.. هذا المشهد ذو اللقطات القليلة يستعمله جروسا بمثابة مفتاح لعلاقته بالشخصيتين، ويشي بالطريقة التي صنع بها الفيلم والتي تؤكد أنه متورط وليس مجرد مراقب.
الحياة.. الموت
أثناء تلك الاجازة الصيفية التي تجمع بين شقيقتين والتي تحتل الربع الاول من الفيلم، يحرك جروسا فيلمه للامام كاشفا عن أبعاد جديدة في شخصية الخالة المحبة للحياة والتي كانت تعمل كمدرسة وكان لها العديد من الأحباب، ولكنها في نفس الوقت تنتقد تصرفات شقيقتها الصغرى حينما يرسل صديقها زهورا، أو حينما تخرج بمفردها ليلا. هنا يظهر جروسا ليدخل الاطار مستلقيا بجوار خالته ليهدئ من روعها، وفي اليوم التالي تعتقد الخالة أنهم يحتفلون بالعام الجديد رغم انهم في منتصف الصيف تقول الخالة (يبدو أن الامور اختلطت علّي) .. يحاول جروسا وأمه أن يخففان من وطأة إحساسها، ولكن الأم تطرح سؤالا في نهاية هذا الفصل، تلقي بحجر يحرك المشاعر المدفونة حينما تواجه تريزا بأنهما لم يتشاركا قط المشاعر الحميمية العميقة، وأنها لو ماتت أولا، ستسأل نفسها هل حقا عرفت أختها بشكل حقيقي وأنها ستجيب بالنفي على سؤالها.. بالطبع هذه الاسئلة ستثير غضب تريزا وحنقها، لا نرى جروسا في هذا المشهد وكأنه يعود مراقبا، ولكن هل تلعب هنا أرنيلا صوت الابن / صانع الفيلم الذي يريد إعادة اكتشاف شخصية خالته قبل رحيلها ؟
الحب.. الكراهية
يقدم الفيلم شخصية جديدة وهي أولجا التي ترافق تريزا أثناء غياب اورنيلا لمدة عدة ايام مع صديقها، وتجدها تريزا فرصة لتعترض على ان يكون لاورنيلا صديق.
دائما ما يشعر المخرج والأم أن هناك شيئ ما تخفيه الخالة، ويريدان ان يشاركا المشاهد هذا الفضول.
لذا حينما تقول تريزا «حياتي لم يكن لها معنى، امي كانت محور كل شيئ.. أمي وانتِ، ولا شيئ آخر، لقد بذلت ما في وسعي لكي أجعل حياتك أسهل» تخرج تريزا بينما يترك جروسا الكاميرا على وجه أمه المصدومة من كلام أختها، والتي تعبر عن صدمتها حينما يلقاها الابن لاول مرة منفردة بعيدا عن الخالة.. أنها تشعر بدرجة كبيرة من اللوم في حديث شقيقتها العجوز، وحينما يسألها جروسا عن أبيهما، تقول أنها لا تعرف ولا تعتقد أنه أبيها!.
أن هذا المستوى الجديد الذي يطرحه جروسا في هذا الفصل هو المشاعر المعقدة التي تكنها الشقيقتان كل منهما للأخرى رغم ما يتبدى من حب ظاهري في علاقتهما.. والسؤال الذي يحرك الفيلم للأمام هنا: هل تنتمي الشقيقتان لنفس الأب؟
على أبواب الموت
تمرض الخالة ويتم نقلها للمستشفى، يداهمها هاجس الموت، بينما تطمئنها اورنيلا وكذلك الطبيب الذي يؤكد انها مازالت بصحة جيدة، بعد عدة أسابيع تخرج من المستشفى عائدة إلى منزلها برفقة أورنيلا وجروسا. تتعاظم مأساة الأم التي تخشى وفاة شقيقتها الكبرى دون أن تبوح لها بالسر.. تريد أن تعرف الحقيقة قبل أن تأخذ معها السر الذي اخفته طوال السنوات الماضية إلى المقبرة، ولكن تريزا ترفض الاجابة دوما بإصرار.
فلا تجد اورنيلا ملاذا سوى الضغط على شقيقتها وتلح لمعرفة إذا كان ينتميان لنفس الأب؟ هل تعرف تريزا من هو والد أورنيلا الحقيقي؟ .. تكرر اونيلا السؤال مرارا وتكرار على تريزا.
تحت ضغط وإلحاح أورنيلا تعترف تريزا لشقيقتها بأن أمها أحبت رجل جنوبي هو أبيها، وأنه كان متزوجا ولديه أطفال آخرين، وأنه مات ودُفن بمقابر البلدة .. تنهار تريزا وتطلب الموت الآن لأنها أفشت السر الذي تكتشفه الشخصية / صانع الفيلم / المشاهد في آن واحد. يترك جروسا الكاميرا ليحتضن هو وأمه خالته المنهارة وهم يبكون.
تذهب أورنيلا للبحث عن قبر أبيها الحقيقي، لقطات طويلة صامتة تتناسب مع الحالة العاطفية لاورنيلا التي تعترف (أكره هذا الجزء من جسدي الذي أتي من هذا الرجل ، وأريد أن أقتلعه). في مشهد النهاية تجلس الشقيقتان في صمت تحيطهما الجبال في حالة من السلام، ربما اتاح البوح بالسر الوصول إلى هذه النهاية الرائقة بعد مشاعر من القلق والتوتر امتدت على مدى (75 دقيقة) أي طوال زمن الفيلم .
تتجاوز القيم الفنية والدرامية في «بين شقيقتين» أكثر من مجرد وصول المخرج لأسرار عائلته، بل تجاوزها إلى رحلة بحثه في المشاعر الانسانية والاقتراب من شخصيتين لم يكن يعرفهما حق المعرفة رغم أن أحدهما أمه و الثانية خالته.
أتخذ مانو جروسا التقنية البسيطة كمنهج في التعامل مع إخراجه لمشاهد الفيلم، وعكست لقطاته حميمية وتعاطف حينا، ترقبا واندهاشا حينا آخر.. لكنه تعامل مع فيلمه وشخصياته بحساسية مرهفة تجعلنا أن نحترم تلك الأسرة ونقدر ما تحمله من مشاعر، ولم تقتصر مجهودات جروسا على الكتابة بالكاميرا، بل امتدت لخلق هذا الايقاع مع مولفه وكذلك بناء شريط الصوت الذي ساهمت فيه لحظات الصمت بقدر كبير.
«بين شقيقتين» حصل على جائزتي أفضل فيلم وجائزة النقاد من مهرجان الاسماعيلية الدولي في شهر أبريل الماضي، وجائزة خاصة من «مهرجان ترينتو الدولي» بإيطاليا، ولكن ستظل قوة الفيلم كامنة في القدرة على التسلل ببراعة إلى المشاعر الانسانية، متناسيا وجود الكاميرا بين الشقيقتين، متجاوزا كشف الاسرار العائلية إلى الوصول للسلام النفسي.