«200 متر».. الشتات الفلسطيني في مواجهة الجدار العازل
ـ إنتصار دردير
لم تعد السينما الفلسطينية مثلما كانت سابقاً تركز على مشاهد المواجهات الدامية بين الجنود الإسرائيليين ورجال المقاومة أو حتى المواطن العادي، والتي من خلالها تندد بالاحتلال، بل باتت تنأى عن الطرح المباشر لترصد حياة الناس اليومية، عبر لقطات مؤثرة تعكس قدر المعاناة التي يعيشها الفلسطيني على أرضه، بتفاصيل عديدة موحية أكثر تأثيراً ورصداً لمعاناة هذا الشعب في ظل الاحتلال اليهودي، وهو منحي يأخذنا إليه فيلم (200 متر) الذى كتبه وأخرجه الشاب أمين نايفة، وشهد مهرجان فينسيا السينمائي خلال دورته الفائتة (76) عرضه الافتتاحي ضمن برنامج “أيام فينسيا” متوجا بجائزة الجمهور، بعدما لاقي اهتماماً نقدياً واسعاً، كما حصد خمسة جوائز دفعة واحدة في مهرجان الجونة السينمائي خلال دورته الرابعة: وهى جوائز: الجمهور، فيبرسي لأفضل فيلم، ومينا مسعود لأفضل فيلم، وأفضل ممثل لعلي سليمان، كما حصلت منتجته الفلسطينية مى عودة على جائزة مجلة “فارايتى” الأمريكية لأفضل سينمائى عربي، إضافة لحصوله على جائزة مهرجان القدس للسينما العربية، كما اختارته الأردن ليمثلها في مسابقة الأوسكار 2021 (بصفتها أحد الممولين الرئيسيين للعمل) الى جانب كل من فلسطين وايطاليا والسويد.
يعرض فيلم (200 متر) أحداثه بأسلوب فني يستحوذ على مشاهديه، ويكسب تعاطفهم مع توالي اللقطات والمواقف التى تكشف عمق الأزمة التى يعيشها البطل، فقضيته هي قضية كل فلسطينى، ويدرك السينمائيون الفلسطينيون أن السينما سلاح للمقاومة وإثبات الحقوق وليست للترفيه فقط، ولذا تظل القضية حاضرة بقوة في الأعمال الفلسطينية عبر كافة الأشرطة الوثائقية والروائية، لكونها قضية حياة.
يطرح فيلم المخرج أمين نايفة أزمة أسرة فلسطينية تعاني التشتت ويفرق شملها الجدار العنصري العازل حيث لا يفصل رب الأسرة عن أفراد أسرته سوي 200 متر فقط، هذه المسافة القصيرة يستغرقها البطل على مدى أحداث الشريط السينمائي (نحو ساعة ونصف) في رحلة شاقة للوصول الى اسرته، وبساطة القصة لا تعنى بالطبع بساطة الفيلم، ولا الأحداث التى يقودنا إليها في رحلة محفوفة بالمخاطر، بل أن المشاهد الأولي لا توحى بما هو قادم، فهي مشاهد عائلية بين زوج وأسرته المكونة من زوجة وثلاثة أطفال، يداعب أطفاله في حنان، ويعانق زوجته في حب، ما يوحي بأننا أمام أسرة سعيدة هانئة.
تتكشف أزمة الفيلم شيئاً فشيئاً حين يقوم الأب، في مشهد تالي، بالتواصل مع أطفاله هاتفيا ليطمئن عليهم ويبادلهم الضحك، ويلقي تحية المساء على زوجته، ليتكشف لنا أنه يعيش في منزل آخر قريبا منهم وبعيدا عنهم في ذات الوقت، فالمسافة بينهما لا تتعدي 200 متر فقط، لكن يباعد بينها ويفصلها الجدار العازل أو” السياج الأمني” الذى أقامته قوات الإحتلال الإسرائيل خلال الإنتفاضة الفلسطينية عام 2005 والذى يرتفع عن الأرض لتسعة أمتار، وشيد من الأسمنت المسلح والأسلاك الشائكة لمنع تسلل الفلسطيني من أرضه إلي أرضه، وتسبب هذا الجدار في عزل الفلسطينيين عن القدس والأراضي المحتلة.
بطل الفيلم “مصطفي” لا يحمل بطاقة هوية إسرائيلية، فقد رفضها منذ البداية، بينما زوجته وأولاده يحملونها باعتبارهم من عرب 48، ندرك ذلك لاحقا بمشهد تعاتبه فيه زوجته (الممثلة لينا رزيق) وتحمله مسئولية هذا الشتات الذي تعانيه الأسرة: أنت تعلم أن الخطأ كان منك حين كان لديك الفرصة لاستخراج بطاقة هوية إسرائيلية لكنك رفضت وتعنت، فينتاب مصطفي الغضب، ويرد عليها محتداً: “لا أريد هذه الهوية “، هذا الموقف يمثل شريحة لايستهان بها من الفلسطينيين الذين يرفضون بإصرار حمل هوية إسرائيلية ويدفعون ثمنا غاليا لذلك.
ثمة رسائل ضوئية مشفرة تكشف عن بدايات المأساة التي يعيشها البطل وعائلته، حيث يلاحظ أطفاله من بلكونه منزله وهم يغلقون الأنوار استعدادا للنوم، لتصبح بمثابة رسائل اطمئنان لهم وله عن بعد، تمنحهم إحساس التواصل المفقود الذي فرضه عليهم هذا الجدار، وثمة مشاهد أخري ترسم على الوجوه المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون لعبورالجدارالعازل في ظل تعنت متعمد من سلطات الإحتلال.
يتحمل الممثل الفلسطيني على سليمان مسئولية الفيلم علي عاتقه، بأداء مبهر، صادق، ومعبر تماما عن الشخصية التي يجسدها، ما يؤكد قدرته كممثل مخضرم متنقلا بين ملامح القوة والقهر، والأمل واليأس، والقلق الذي يعتصره على طفله المصاب.
ينتمى العمل لنوعية أفلام الطريق التي تعتمد في موضوعها على أحداث تقع خلال رحلة لا يمكن التنبؤ بمسارها، حيث يصحبنا المخرج مع بطله مصطفي، وهو في طريقه للعمل، فيما يجتاز نقاط التفتيش الإسرائيلية، تتبع الكاميرا تفاصيل رحلة المعاناة اليومية مع اصطفاف العابرين في طوابير ممتدة حتى يسمح لهم بالمرور، ويجد مصطفي نفسه مجبرا على المرور عبر نفق ضيق مكتظ بالمئات الذين يريدون الوصول الي أعمالهم في الضفة المحتلة.
تتفاقم أزمة مصطفي حينما يتلقي مكالمة تليفونية من زوجته تخبره فيها بتعرض إبنه لحادث سير ونقله للمستشفى، هنا يجن جنون الأب قلقا على طفله وتنتابه الهواجس مع منعه من عبور الحاجز لعدم حصوله على ترخيص مسبق من السلطات الإسرائيلية.
يسلط العمل الضوء على الأبواب الخلفية التى تدفع بطله الي اللجوء لها للوصول الى غايته، والتي تكشف عن شبكات تهريب واسعة لنقل العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية إلي إسرائيل، فيما يضطر آخرون لتسلق الحاجز المرتفع بأسلاكه الشائكة، ليبدأ الفصل الثاني من الفيلم والأهم برحلة مصطفي التى يقطعها وسط محاذير عديدة.
في السيارة نتعرف مع مصطفي على رفاق رحلته التي بدت عاديه للوهلة الاولى، لتتخذ بعد ذلك تحولات دراميه مشوقه، هناك الفتاة الألمانية أنى (أونتير بيرغر) وصديقها الفلسطيني الذي يكتشف مع تصاعد الأحداث أن والدها اسرائيلي، والفتي رامي الذي يهرب من أسرته باحثا عن عمل في أي مكان لكونه غير متعلم، هذه الشخصيات التى إلتقت على غير موعد يجمعها هما واحدا هو العبور إلي الجانب الآخر بسلام، دون أن يتم إكتشافهم من قبل سلطات الاحتلال، ليصبح هذا الحلم بعيد المنال، حيث تتصاعد أزمة الجميع مع رغبة السائق في العودة بهم من حيث جاءوا، وعندما يتم حشر الركاب داخل حقيبة السيارة خوفا من نقاط التفتيش، يصبح وصول بطل الفيلم الي المستشفى أقرب بالمستحيل.
هذا الرصد الإنساني من قبل المخرج أمين نايفة، يعكس برهافة حس مأساة جدار الفصل العنصري وإن سبقه لذلك كثيرون، لكن ما يميز فيلم (200 متر) أن هذا الجدار كان حاضرا في الاحداث، ومسببا لها، ومتفاعلا مع كل الشخصيات، وكان حاضرا حتى على المستوى البصري، في لقطات واسعه وقريبه، وكأنه يذكرنا كلما غاب عن أعيننا بأنه لايزال رابضا بثقله ومعاناته وكل ما يحمله من شر.