خيرية البشلاوي تكتب: «طلق صناعي» الاتجاه المعاكس للسينما السائدة
ـ خيرية البشلاوي
قد يبدو غريباً أن أبدأ الكتابة عن فيلم «طلق صناعي» للمخرج خالد دياب بعنصر «الديكور» الذي جعلني ـ وكلي دهشة ـ أعتقد لأول وهلة أن ما أتابعه يحدث بالفعل داخل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في مصر. وهذا الاعتقاد الخاطئ بالتأكيد «جرجرني» إلي منطقة «الظنون» وبعض الظن إثم. قلت في عقل بالي وأنا أتابع. ربما حظي «الإخوة دياب ـ خالد ومحمد وشيرين» الذين كتبوا السيناريو. بهذا الامتياز الاستثنائي لأن الفيلم يدق علي رأس المصريين ويوجعهم فهم حسب السيناريو والحوار «كذابون. غشاشون». لا يملكون أي شيء أصيل. فضلاً عن كونهم همج متخلفون وإرهابيون بالفطرة ومهووسون بأمريكا إلي حد التهور واحتجاز رهائن وافتعال الجيل والاندفاع إلي مغامرات من أجل ابتزاز موافقة للحصول علي تأشيرة تسمح بالدخول إلي أمريكا.
«الديكور» من العناصر المهمة في عملية الإيهام بالمصداقية ومن ثم الاستحواذ علي المتفرج.. ولكن ليس بـ «الديكور» وحده يتميز فيلم «طلق صناعي» فهناك عنصر «التشخيص» بمعني خلق شخصيات مقنعة تراهن على فكرة «القمع» الأمني للشواذ «المثليين» ولـ «الأقباط» الأمر الذي يجعل فريق الممثلين يضم «شواذ» و«مسلمين» يدّعون أنهم أقباط ويعلقون علامة الصليب ومنهم مدّعون ومتواضعو التعليم ولكن يجمعهم نفس «الحلم» وغاية الوصول إلي «أرض الأحلام».
ويتضمن هذا العنصر التشخيصي نماذج من رجال الأمن يتم تصويرهم علي نحو فكاهي سافر مثل شخصية مدير الأمن «سيد رجب» ورئيس الوزراء «عبد الرحمن أبو زهرة» وبعض جنود الأمن المركزي. وللموضوعية يطول الرسم الكاريكاتوري الساخر الشخصيات الأمريكية ومنهم السفير نفسه. وبعض الموظفين داخل السفارة بغرورهم وحدتهم.
يتقدم الشخصيات وسط مجموعة المتقدمين لطلب تأشيرة الولايات المتحدة الزوجان «حسين» و«هبة» ماجد الكدواني. وحورية فرغلي والاثنان سبق أن تقدما لنفس الطلب وقوبلا بنفس الرفض. وباتا محملين بالإحباط.
الزوجة «هبة» حامل في شهرها الأخير وعلي وشك الوضع والزوج «حسين» من فرط إحباطه وتوقه العارم للهجرة. يتفتق ذهنه عن «حيلة» للتعجيل بولادة الزوجة علي أمل حصول المولود القادم علي الجنسية حسب القانون الأمريكي الذي يتيح لمن يولدون علي أرض أمريكية الحصول علي الجنسية. فهكذا أفهمه نسيبه المحامي «بيومي فؤاد» الذي يناله من جراء ذلك تعذيب مفرط علي أيدي الأمن.
وبناء علي هذه «الحيلة» التي تستدعي تناول «القرص» أو «الحباية» التي أعطاها الزوج لزوجته وطلب منها الذهاب إلي الحمام إلي أن يتحقق مفعولها وتلد «التوأم» ويتحقق المراد.
وبناء علي تداعياتها يحدث العديد من الموافق منها ما هو وليد اليأس أو الشهوة المشروعة للهجرة والأساليب غير المشروعة لتحقيقها.
بعض هذه المواقف لا شك تحقق الفكاهة المطلوبة من فيلم كوميدي. وبعضها يزداد تأزماً مما يستدعي حضور السفير الأمريكي الذي يلعب دوره الممثل التونسي نجيب بلحسن وينجح بملامحه وأدائه في تقمص الشخصية كما أرادها المؤلف ـ المخرج. وكذلك تستدعي قوات الأمن المركزي ويحدث «الاشتباك» اللفظي والحركي وتظهر عنجهية وشوفينية الطرفين بفضل دقة اختيار جُمل الحوار والتوجيه المناسب للغة الجسد وملامح الوجه الأمر الذي يكشف بالضرورة عن الصورة الذهنية التي يسعي صُناع الفيلم إلي تكريسها والتي تدعمها بعض التفاصيل الصغيرة مثل اختيار «الطبيب» المُكلف بتوليد الزوجة «محمد فراج» من الجيش أيضًا.
هناك أيضًا صورة «المارينز» وإن بدت أقل فجاجة وصفاقة من صورة رجل الأمن المبتذل بألفاظه وهيئته وأسلوب أدائه.
ويستدعي الفيلم للذاكرة فيلم «الإرهاب والكباب”. الإرهاب «الوهمي» أو «المفترض» في شخصيات ضعيفة في نهاية الأمر. ولها مطالب إنسانية أيًا كانت. أو مهما اتسعت الفوارق بين المواقف والمطالب. مع تحميل إضافي في «طلق صناعي» لشحنات السخرية والتصوير الكاريكاتوري الشائه لرجل الأمن.
هناك فارق بالطبع بين كمال الشناوي في الفيلم الأول وسيد رجب في الثاني.
الفيلم يستدعي أيضًا بعضًا من مشاهد «الاشتباك» للمخرج محمد دياب الذي حظي هو ومخرجه بترحيب مُبالغ فيه من قبل مؤسسات سينمائية غربية وأمريكية. وأقول مُبالغ فيه لأنه في النهاية عمل لا يمثل «رائعة فنية» انه مجرد فيلم جيد الصنع هناك. أيضًا التشابه في الخط العام للحبكة بمعني حدوث الأحداث في مكان ضيق ومحصور وفي وقت محدد وحول حدث واحد «وحدة الزمان والمكان والحدث» ولكن يتفوق «اشتباك» في اتساق الخيوط وتشابكها بدون فجوات في نسيج واحد وتصاعد الحدث حتي وصل نهاية تمثل الذروة «كرشندو».
وهناك مشهد أتصور أنه مأخوذ من الفيلم «اشتباك» وأشير إلي رتل سيارات الترحيل لجنود الأمن المركزي بالإيقاع المتسارع ذاته والمُعبر عن سطوة الأمن وحضوره كلي الوجود حتي في مجال «الطب» وهي وجهة نظر يتم الترويج لها.
هناك كذلك مشهد الشخصية «المحصورة» بسبب احتياجها اللحوح لقضاء حاجتها أي الدخول إلي الحمام.. أشير إلي الشخصية التي لعبتها مي كساب التي أدت دورها بقدر من المبالغة في الأداء الحركي واللفظي للتعبير عن ضيق ما تعاني منه. وهي واقفة أمام باب الحمام المغلق علي الزوجة الحامل «هبة» المحصورة والمحاصرة بدورها برغبة زوجها المُصر علي توليدها صناعيًا حتي يتحقق أمله. والمشهد تم تنفيذه بتوازن من خلال توزيع مساحات الأدوار للحاضرين داخل القاعة وعلي نحو يفرد مكانًا للإفيهات والمفارقات ويعكس الأزمات متعددة الوجوه والأسباب لكل شخصية تسعي للحصول علي التأشيرة المنشودة.
خالد دياب في أول أعماله كمخرج بعد تأليفه عدداً من السيناريوهات الناجحة ومنها «ألف مبروك» و«عسل أسود» و«اشتباك» و«الجزيرة». يعود للخلف علي المستوي الوجداني والفكري والاجتماعي ويقدم شخصية تمثل النقيض الكامل لشخصية بطله في «عسل أسود» التي لعبها أحمد حلمي. إذ يبدأ الحدث في «طلق صناعي» قبل السفر إلي أمريكا ومع استحالة الحصول علي التأشيرة. بينما في الفيلم الذي ألفه منذ سبع سنوات 2010 يبدأ بعودة الشخصية الرئيسية إلي الوطن بعد سنوات طويلة قضاها في أمريكا. ومن خلال الزيارة يري ما لم يسره وما لم يرضه. ومع ذلك وجد الأسرة والدفء والمودة وهي نفس الأشياء التي جعلته يقطع رحلة العودة إلي أمريكا ويعود إلي مصر لأنها فيها «حاجة حلوة».. الأغنية التي سخر منها في فيلمه هذا الأول «بشرة خير».
ولعل الحاجة الحلوة الوحيدة الطيبة التي تأتي من خلال جملة عابرة يمنحها أداء الكدواني ثقلاً معنوياً ومعني يتجاوز الدمامة والقبح الذي أصاب الناس واليأس الذي طمس عقولهم وأسكنهم جنون الرغبة في السفر.
«دلوقتي أنا مطمن» يقولها وهو في سيارة الترحيلات وبعد توصية لابنه الوليد الذي شاء حظه أن يخرج من رحم أمه علي أرض مصرية. بينما الطفل الثاني ينزل علي أرض «السفارة» لعله يقطع نفس رحلة أحمد حلمي في «عسل أسود» ويعود ليبقي أو لعل وجوده كأمريكي يفسح المجال لجزء ثان!
الفكاهة في فيلم «طلق صناعي» يوردها لنا الممثل الظريف مصطفي خاطر. فهو كوميديان حتي النخاع. وكذلك الشخصية البدينة «محمد جمال قلبظ» الذي حضر لها السيناريو قدراً من الإفيهات الذكية الخارجة من حدة المفارقة بين كونه مسلمًا ويتظاهر بأنه مسيحي. والممثلان امتلكا خفة الروح واتسقا مع روح الفيلم ومع مزاجه الساخر. بينما احتل بؤرة الاهتمام دراميًا الكدواني بأزمته وبدرجات الانفعال التي عبرت عنها وإصراره علي إنجاز حلم الهجرة مهما كلفه الأمر. ثم مع تسارع الأحداث حوله واتخاذها منحني آخر لم يتوقعه أصبح بحكم القانون إرهابيًا يحتجز رهائن.
ومع ذلك لم يكن ذلك الأداء الرصين للممثلين كافيًا لإقناعنا بأنه شخصية سوية أو أنها تتحرك وفق منطق أو تفكير محتمل الحدوث ولا يدرك خطورة المكان وإمكانياته القادرة علي نسفه لو أنه افتعل مغامرة ليست محسوبة تدفع به إلي محاكمة قد تؤدي إلي حبسه مدي الحياة.. فلسنا أمام «فانتازيا» حتي نحتسبه كائن «زومبي».
حورية فرغلي ممثلة قوية الأداء لعبت دوراً صعباً بسهولة وكأن ما تفعله سلوك إمرأة حامل فعلا وخائفة جداً علي ما تحمله في أحشائها. وهي أكثر وعيًا بخطورة ما تقدم عليه. وفي النهاية تنجح في إقناع زوجها بالعدول عن «مشروعه» مستخدمة نفس الوسيلة التي لجأ هو إليها وإن كانت رعناء ويصعب توقعها من امرأة عادية مصرية.
«الثلاثي دياب» يمثلون الآن الاتجاه المعاكس للسينما السائدة. أتحدث عن الفيلمين الأخيرين بصفة خاصة وأفلام ما بعد ثورة 30 يونيه.. باقي أفلامهم جماهيرية وجيدة. وليست ثورية. بالمناسبة أفلام تناقش قضايا اجتماعية من منظور مستنير «678». وتحقق تأثيراً إيجابياً «100 مبروك. الجزيرة» وبعضها يتناقض تماماً مع جوهر ما يقدمه فيلما «اشتباك» و«طلق صناعي».
آل دياب يمثلون إضافة للسينما الوطنية. لا شك لأن سينماهم التي تنتمي للتيار الرئيسي للسينما المصرية الجيدة توفر للمشاهد قدراً كبيراً من المتعة الفنية وتسهم في تأكيد الوعي بالسينما كفن وصناعة وتجارة وهو ما نتطلع إليه كمشاهدين يحلمون بسينما تنافس بموضوعية ولعل في الحفاوة التي تحيط بأعمالهم «بشري خير» وأيضًا لفت نظر.