«400 ورطة».. أسس لموجة جديدة في السينما الفرنسية
«سينماتوغراف» ـ عمار محمود
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان الكثير من الإستوديوهات في إيطاليا قد تدمر، وكان روبيرتو روسيلليني من المخرجين الموجودين في تلك الأثناء، وكان يرغب جاهداً في صناعة فيلم عن الحرب، فأخذ الكاميرا معه إلى الشوارع واختار ممثلين غير محترفين أو بعضاً من الجمهور الذين لم يكن لهم أية تجارب تمثيلية واستغنى عن معدات الإضاءة واكتفى بالإضاءة الطبيعية، وأنتج أول أفلام الواقعية الجديدة بأقل تكاليف عام 1945 «روما- مدينة مفتوحة».
وفي تلك الأثناء كان أندريه بازان أحد أهم النقاد الفرنسيين يكتب بشكل دوري عن الأفلام، إلى أن أنشأ بصحبة صديقين مجلة كراسات السينما الفرنسية المتخصصة في نقد الأفلام، وألهمته الواقعية الجديدة تأسيس نظرية السينما الواقعية إحدى أشهر نظريات السينما الحديثة، وأيضاً سينما المؤلف التي أعجب بها الكثير من المخرجين وحاولوا تطبيقها على أرض الواقع، لتصبح نظريات السينما في كراسات السينما الفرنسية عملية وليست مجردة، ليساهم ذلك كثيراً في انتشارها وشهرتها في أوساط السينما العالمية.
في وسط الأربعينيات من القرن الماضي تعرف أندريه بازان على فرانسوا تروفو عندما أنشأ ترفو نادي للسينما يعرض فيه أفلاماً وكون صداقة عميقة جداً معه، والذي على أثرها عندما التحق تروفو بالخدمة العسكرية، حاول بازان بعلاقاته أن يخلصه منها ليلتحق تروفو بكراسات السينما الفرنسية في مطلع الخمسينيات، ليصبح بعد ذلك أيضا أحد أهم نقاد السينما العالمية.
في عام 1954، كتب تروفو مقالاً يهاجم فيه العديد من الأفلام التي أطلق عليها «أفلام تراث الجودة»، لأن الأفلام تلك كانت قد ساهمت في تقييد التغيير والتجديد في السينما الفرنسية بالرغم من نجاح أفلام الواقعية الجديدة أثناء عرضها في فرنسا ولم يلتفت لها المخرجون، لأن أفلامهم وضعت نموذجاً للفيلم الناجح جماهيرياً وساهمت في انخفاض الذوق العام الفرنسي إذ كانت تلك الأفلام أبطالها نجوماً وسيناريوهاتها مقتبسة عن أعمال أدبية مشهورة مهما كانت تلك الأعمال لا تصلح للسينما. وأيضاً كان العديد من تلك الأفلام اقتباسات كاملة من أفلام أمريكية نجحت جماهيريا، فحارب تروفو تلك الأفلام واحتفى هو ونقاد السينما الفرنسية بالواقعية الجديدة في إيطاليا وسينما المؤلف في أمريكا، إلى أن تشبع تروفو من كل تلك الخبرات وحاول الاستفادة منها لأول مرة كمخرج يحاول ضخ دماء جديدة في السينما الفرنسية.
فيلم: 400 ورطة ـ Les Quatre Cents Coups
إنتاج: 1959
تأليف وإخراج: فرنسوا تروفو
في واحدة من أكثر القصص عاطفية وقرباً من قلب جمهور السينما، والتي يكون فيها بطل الفيلم لا يزال فتى ورفيقا لحظ سيء ولأم قاسية وأب لا يهتم، كان كذلك أنطوان دونيل (جان بيير لود)، بطل الفيلم الذي يحاول بكل طاقته أخذ نصيبه من السعادة والحياة في الدنيا التي تدير له ظهرها دائماً.
شكل بسيط جداً من السرد، يرصد حياة مراهق مشاغب يحاول أن يستمتع وحده أو مع صديقه المفضل، دون أن يهتم بأوامر أحد من والديه أو حتى مدرسيه، فتحدث له العديد من المشاكل بسبب ذلك، فيحترف الكذب مسجلاً أولى محاولات الهرب من العقاب، إلى أن يقتنع أبواه بأنه كاذب دائماً وكذلك مدرسوه بعدما يكتشفوا كذبه، فيتعامل الجميع معه بالعنف أو بالنبذ، فـيحاول أنطوان الفرار منهم، فمرة ينجح وأخرى يخفق، كعادة حظه السيء، وكان دائماً يسرق من أبويه أو جدته التي أقام معها صغيراً لكنه أبداً لم يقبض عليه متلبساً، سوى مرة واحدة كان عندها قرر أن يسرق آلة كاتبة وعندما فشل في بيعها قرر إرجاعها لمكانها فقبض عليه أثناء ذلك، وتم إذلاله بشدة بانتظار زوج أمه الذي ذهب به للشرطة كي تضعه في إصلاحية للأطفال المشاغبين جداً، وكان ذلك أسوأ عقاب في حياة أنطوان والتي رصد المخرج فيها أكثر اللحظات الإنسانية خصوصية وصفاء وألماً، وعبثا وحيوية وغباء عندما ينفذ أنطوان أية فكرة تطرأ على باله فورا دون مراعاة أية حسابات للعقاب والتي اقتبس تروفو من حياته الشخصية أصلاً بعض من المواقف التي صورها في الفيلم، والذي تحول لما يشبه السيرة الذاتية لتروفو المراهق، الذي يهرب من أوجاع الحياة إلى دور السينما أو إلى شوارع باريس، وخلق بذلك ألفة أكثر وحميمية وتفاعلاً مع المشاهد، كان أحد أسباب نجاح الفيلم جماهيرياً.
حاول المخرج مجاراة حياة أنطوان السريعة بالإيقاع السريع، الذي جاءت فيه اللقطات قصيرة والأحداث كثيرة في المشهد الواحد والصراع النفسي على مدار الفيلم المتغير دائما، فمرة يحب أنطوان والديه ومرة يكرههما وكذلك علاقته المضطربة مع محيطه في المدرسة سواء مع الطلبة أو المدرسين، وحياته الشخصية التي لم يستقر فيها على حب أي شيء سوى المغامرة التي بدأها منذ أن كان في رحم الخطيئة ثم لأبوين بالتبني ثم في بيت جدته ثم عندما اقترب من العاشرة من عمره استقر مع أمه، التي يكتشف أنها تخون زوجها، ثم أخيراً في الإصلاحية.
ساهم الازدحام التي تمتلئ به شوارع باريس في النشأة المضطربة لأنطوان الذي لم يختل بنفسه سوى لحظات قليلة كان يقطعها صوت مزعج أو أحد الأشخاص، وكانت غير كافية لإتاحة الفرصة لأنطوان في استعادة توازنه والتفكير في حياته وما فعل وما يريد أن يفعل، خلوة مع نفسه كي يتحقق من ذاته، والتي لم تأت سوى في آخر لقطة في الفيلم، وهو محاصر بالبحر والرمال، ناظراً مباشرة في عين المشاهد متسائل (هل أنا كنت طفلاً، أم أن الذي كان طفلاً سواي؟).
كان الهدف الرئيسي من الفيلم هو أنطوان، حياته، خصوصية لحظاته، مشاكله البسيطة التي لا يستطيع حلها، كل ذلك كان التحدي الأكبر للمخرج الذي يحاول أن يجدد أولاً ويحقق ذاته ثانياً، فحاول ابعاد التمثيل بالأداء التلقائي لمراهق كانت تلك أولى تجاربه السينمائية، والذي سوف يصبح ذلك الأداء أحد سمات الموجة الفرنسية الجديدة، كما استخدم كذلك السيناريو مقيد المعرفة، الذي يتواجد أنطوان في كل مشاهده تقريباً، لزيادة سرعة التجانس والألفة مع المشاهد، لأجل التماس الشعوري الذي يرجوه المخرج، والذي حاول تكثيفه وتسريع إيقاعه باستخدام التصوير الخارجي في مواقع عديدة من أجل زيادة حيوية المشاهد حتى لا يمل الجمهور ظهور أنطوان، وكثرة أماكن التصوير الخارجي سوف تصبح من سمات الموجة الفرنسية الجديدة.
كانت أهم مشاهد الفيلم، تلك التي يهدأ فيها أنطوان من عبثه، وينام، أو يستغرق في النظر إلى شيء ما أو يتأمل حالته المتقلبة، بدمعة مرة وبابتسامة مرة، تلك المشاهد التي يهبط فيها الإيقاع الخارجي للأحداث، ويبقى الإيقاع الداخلي الذي تساعده الموسيقى لكي يتضاعف أثره بذلك اللحن البسيط، الذي يحتوي مشاعر أنطوان، أنطوان الذي لا يتمنى سوى كلمة طيبة لا يتبعها أذى.
هذا الفيلم احتفاء بالمغامرة، وهو أصلاً مغامرة، بداية من أنه التجربة الأولى لمخرجه، والتجربة التي تؤسس لموجة جديدة من الأفلام في السينما الفرنسية، إلى مخاطرة سرد سيرة ذاتية في أول فيلم، وكل تلك المخاطرات كانت سبباً في تغيير السينما العالمية إلى الأبد، فبداية من جريفيث عندما قرر تحرير الكاميرا من مكانها، وإيزنشتاين عندما قرر إعادة ترتيب مشاهد فيلم شاهده إلى روسيلليني الذي حمل الكاميرا إلى الشوارع وفورد الذي ذهب بها إلى الصحاري وآخرين احتفوا بالمغامرة في حياتهم وأفلامهم، فكتب لهم الخلود.