عبد الناصر في السينما.. ديكتاتور غليظ .. أم وطني شريف؟
في ذكرى ثورة 23 يوليو، ناصر عراق يكتب لـ «سينماتوغراف»
كلما هلت ذكرى ثورة 23 يوليو، ارتفع اسم جمال عبد الناصر واحتل مساحات واسعة في الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، فقد كان أخطر رجل مصرى فى القرن العشرين من حيث حضوره الطاغى فى حياة الناس، سواء فى فترة حكمه أو بعد رحيله، حيث استقر فى وجدان الملايين بوصفه رمزًا للكرامة الوطنية، والعزة القومية، والعدالة الاجتماعية، الأمر الذى جعله الزعيم المصرى الوحيد الذى رفعت صورته الملايين فى ميادين التحرير إبان ثورتى يناير ويونيو، على الرغم من أنه غاب عن دنيانا قبل45 عامًا تقريبا، وبالتحديد فى السادسة والربع من مساء يوم الاثنين 28 سبتمبر من سنة 1970. ت
ترى.. كيف استقبلت السينما ثورة يوليو 1952 التى فجرها عبدالناصر؟ وكيف تعاملت معه؟ وهل تبدل الحال بعد رحيله؟ ولماذا أصر صناع السينما فى زمن السادات على تعكير ذكرى الرجل ووصفه بالديكتاتور المهووس بتعذيب المواطنين؟ ثم كيف انقلبت الأمور مع نهاية التسعينيات وبدأ نور الزعيم يشع من جديد على الشاشة مغلفًا بالتقدير والحفاوة؟
تعالوا أقص عليكم سريعًا طرفًا من حكاية السينما مع عبدالناصر لندرك الأثر الكبير الذى يمكن أن يحدثه الفن السابع فى وجدان المشاهدين.
بور سعيد
عندى ملاحظة مهمة أود تحريرها قبل الدخول فى التفاصيل، هى أن السينما المصرية فى مجملها سينما محافظة، تهاب السلطات وترتعب من الخسارة المالية، لذا تؤثر دومًا السير فى الدروب الآمنة، فلا تقرب دنيا السياسة الشائكة إلا فيما ندر، ولا تجرؤ على انتقاد النظام السياسى الحاكم إلا قليلًا وبصورة غير مباشرة، كما أنها ظلت تحتفظ بمسافة واسعة بينها وبين ما يضطرب به الواقع من أحداث سياسية جسام، إذ شيدت مجدها على الاهتمام بالقضايا الاجتماعية، ومشكلات الغرام وصراعات العشاق! لك أن تعلم – على سبيل المثال – أن حدثًا ضخمًا مثل ثورة 23 يوليو 1952 لم ينعكس على الشاشة إلا بصورة خجولة جدًا فى نهاية عام 1953، أى بعد مرور أكثر من عام على وقوعه، وبالتحديد فى 26 أكتوبر عندما ردد إسماعيل ياسين، وكمال الشناوى، وميمى شكيب، ومارى منيب، وكاريمان أغنية ليلى مراد «الاتحاد والنظام والعمل» أول شعارات الثورة، رددوها ولكن بعد تحوير وتبديل بطريقة كوميدية! ثم ظهرت مجموعة أفلام إسماعيل ياسين فى الجيش والبوليس بدءًا من مطلع عام 1955، وهى أعمال لا تتحدث عن ثورة يوليو بشكل مباشر، إنما تمتدح المؤسسات العسكرية والشرطية التى أنجبت ضباط يوليو. أما فيلم «الله معنا» لأحمد بدرخان فهو أول عمل يتحدث بشكل غير مباشر عن التنظيم السرى للضباط الأحرار، لكنه يفضح بوضوح وقوة حكاية الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين، وقد عرض فى 14 مارس 1955.
لاحظ أن كل هذه الأفلام لم تأت على ذكر عبدالناصر من بعيد أو قريب، فلم نر صورته، ولم نسمع صوته فى خلفية أى مشهد، لأن السينما لم تكن قد اطمأنت بعد حتى منتصف عام 1956 إلى أنه سيصبح الرجل الأول والأهم فى مصر والعالم العربى. فى 26 يوليو 1956 أعلن عبدالناصر قراره الجرىء بتأميم شركة قناة السويس لتتقد أفئدة الملايين بالحماسة، وليضع الشعب زعيمه فى أكرم ركن من قلبه، هنا فقط أيقنت السينما تمامًا أن قائد ثورة يوليو استقر فى السلطة، وأن الملايين تعشقه بحق، ولما غارت طائرات العدوان الثلاثى على بورسعيد فى 29 أكتوبر من العام نفسه أقدم المصريون على صد العدوان بكل جوارحهم، والتفوا حول القائد الذى شعروا معه أنه منهم، وأنه عزيز عليه ما كابدوه، حريص عليهم، وأنه أول رجل مصرى يحكم مصر منذ ألفى سنة!
فى 8 يوليو 1957 عرض فيلم «بورسعيد» للمخرج عز الدين ذو الفقار للمرة الأولى، وهو أول فيلم مصرى يستمع فيه المشاهد إلى صوت عبدالناصر عندما أعلن قراره بتأميم القناة، والفيلم كما تعلم إنتاج وبطولة فريد شوقى، وهدى سلطان، وشكرى سرحان، ويصور الفيلم ملحمة كفاح شعب بورسعيد ضد العدوان الثلاثى، إذ إن زمن أحداث الفيلم تدور فى سنة العدوان نفسها! أما فيلم «رد قلبى» لعز الدين ذو الفقار، والذى عرض فى 10 ديسمبر من ذلك العام، فيأتى على ذكر تنظيم الضباط الأحرار بوضوح تام، ولا تنس أن من كتب قصته يوسف السباعى، وهو أحد ضباط التنظيم، وإن لم يكن من الصف الأول، لكن المخرج لم يشأ أن يكون لعبد الناصر – الاسم والصورة – أى حضور فى هذا الفيلم!
الباب المفتوح
عاد صوت عبدالناصر مجلجلًا بتأميم القناة ليستمع إليه الجمهور وهو يشاهد فيلم «الباب المفتوح» للمخرج بركات، والمأخوذ عن قصة للدكتورة لطيفة الزيات، وبطولة فاتن حمامة، ومحمود مرسى، وحسن يوسف، وصالح سليم، والفيلم عرض فى 6 أكتوبر من سنة 1963. يستعرض الفيلم بإيجاز كيف شاركت الفتاة المصرية فى الحركة الوطنية ضد الاحتلال الإنجليزى بالرغم من ضغوط الأهل، وكيف أصرت على التحرر من سطوة الرجل الأنانى، والتحقت بالجموع التى ذهبت إلى بورسعيد للمشاركة فى صد العدوان الثلاثى بعد أن أعلن عبد الناصر تأميم القناة. فى ذلك العام أيضا – 1963 – قدم المخرج يوسف شاهين فيلمه التاريخى «الناصر صلاح الدين»، وهو فيلم يحتفى بدور البطل/ الزعيم القديم الذى حرر القدس من الصليبيين، فى إشارة غير مباشرة إلى الزعيم الجديد الذى تلتف حوله قلوب المصريين والعرب!
الكرنك
بعد وفاة عبدالناصر دارت الأيام دورة معاكسة كما يقول الناقد الراحل فاروق عبدالقادر، فانقلب الأعداء أصدقاء، وتبدلت السياسات، وأطيح بمبدأ العدالة الاجتماعية، وفتح الباب لسياسة «انفتاح السداح مداح» بتعبير الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وبالتالى كان من الضرورى أن تواكب السينما هذه التغيرات الجذرية فى السياسات والتوجهات، خاصة أن منافقى السادات مضوا يشهرون بعبدالناصر وانحيازاته، فأقبلت السينما على تشويه صورة الرجل بإيعاز من السلطات آنذاك، وهكذا رأينا فيلم «الكرنك/ 1975» للمخرج على بدرخان، وهو فيلم يصور مصر فى زمن عبد الناصر باعتبارها معتقلًا كبيرًا يلقى فيه المواطنون الأبرياء نصيبهم اليومى من التعذيب المفرط! وأذكر أننى سمعت فريد شوقى – أحد أبطال الفيلم – فى حوار إذاعى يعلن احتجاجه على الفيلم، ويؤكد أن مشاركته كانت غلطة لن تتكرر! الأمر نفسه تكرر مع فيلم «إحنا بتوع الأوتوبيس/ 1979» للمخرج حسين كمال، حيث مشاهد تعذيب الأبرياء هى البطل الرئيسى فى الفيلم، وكأن الناس فى مصر أيام عبد الناصر لم يفعلوا شيئًا سوى الذهاب إلى المعتقلات أفرادًا وجماعات لينالوا نصيبهم اليومى من التعذيب!
ناصر 56
بعد مصرع السادات تغيرت الأحوال، وإن لم تتغير السياسات، والرئيس الجديد لمصر لم يكن له ثأر شخصى مع عبد الناصر، بعكس السادات الذى كان يعانى من مشكلة أنه وصل إلى السلطة عقب رحيل زعيم ذى شعبية طاغية، وبالتالى لم يكن مبارك فى حاجة ماسة إلى تشويه صورة عبد الناصر وذكراه، وهكذا تراجعت الأعمال السينمائية التى تغالى فى سب الحقبة الناصرية، حتى تجرأ محمد فاضل، ومحفوظ عبدالرحمن، وأحمد زكى وقدموا تحفتهم الخالدة «ناصر 56» فى 5 أغسطس من عام 1996، ليحقق نجاحًا مذهلًا، وليكتشف الشباب كيف حكم مصر رجل وطنى شريف أدار معركته مع الاستعمار بكل حصافة وذكاء حتى يسترد المصريون حقوقهم فى قناة السويس. ثم توالت الأفلام والمسلسلات التى تحتفل بعبد الناصر، أو تقتبس بعض عبارات من خطبه، خاصة خطاب التنحى، وهكذا ذاب الرجل فى وجدان المصريين حتى رفعوا صوره فى ميادين الثورة، وإن كانت ظلال التشويه مازالت قائمة كلما عرضت أفلام التعذيب.