القداس الأسود .. الغرق في وحل الجريمة الأكثر دموية وعنفا
جوني ديب ذو الألف وجه ..أداء رائع بملامح قبيحة
القاهرة ـ «سينماتوغراف»: أمنية عادل
يعد “الأب الروحي” لفرانسيس فورد كوبولا و”الأصدقاء الطيبون “لمارتن سكورسيزي من أشهرأفلام العصابات الأمريكية، إذ جسد كل منهما حياة المافيا بصورة تشويقية أضفت على حياتهم ملمحا لا ينتهى من الدماء والقتل والسرقة والمطاردة، ولا يقل فيلم “القداس الأسود” للمخرج سكوت كوبرعن هذين الفيلمين في تقديمه لجانب من حياة رجل المافيا الأمريكي ذى الأصول الأيرلندية “ويتي بولجر” وصفقته السوداء مع رجال الفيدرالية الأمريكية.
يقتطع كوبر ملمح من حياة هذا الرجل الذي تصدرقائمة أخطرعشرة من المطلوبين في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، فيما اختلف فيلم كوبر عن فيلمى كوبولا وسكورسيزى بأنه أكثر واقعية وصراحة، حيث أوضح الجانب الحقيقي لرجل المافيا المتجرد من كافة أوجه الرحمة والحياة الطبيعية، وهوما يؤهله بجدارة ليكون رجل عصابة كبرى يستطيع إثارة إعجاب المشاهد سواء رضى بهذا أورفضه.
رغم اعتماد كاتب السيناريو مارك مالوك على كتاب “القداس الأسود ويتي بولجر إف بي أي وصفقة الشيطان” الذي كتبه كل من ديك لر وغيرارد أونيل، وهما صحفيان يعملان في صحيفة “بوسطن غلوب”، إلا أنه انتهج أسلوبا مغايرا في السرد وتقديم الفيلم للمشاهد، حيث اعتمد تقنية “الفلاش باك” وتشابك الأحداث لإضفاء روح من الإثارة والتشويق على العمل، مما أخرجه من سياق السيرة الذاتية والسرد المنتظم.
ففي عام 1997 تتبعت الصحف علاقة الفيدراليين بالمجرم الملاحق ويتي بولجر وكشفت التحقيقات آنذاك عن تورط بولجر مع أحد الضباط وعقده صفقة مشبوهة لتخليص روحه من العقاب في جريمة قتل ارتكبها مقابل العمل كمخبر لحساب مكتب التحقيقات الفيدرالية.
شريحة من الحياة
ومثلما حاول المخرج المسرحي المعاصر برتولد بريشت تقديم شريحة من الحياة للمشاهدين على المسرح ،قدم كوبر وممثلي الفيلم ملامح الإنسان وحياة العصابات خالية من المكياج الزائف دون تصنع أو تجميل ، حيث برزت ملامح الحقد والقتل البارد والأنانية، حتى التآمر والتخلى عن القيم والمبادئ بصورة مباشرة، في محاولة لمكاشفة الذات مع المشاهد، وكأنه حديث لكل منا على شاشة السينما بأننا جميعنا نفعل هذا بشكل أو بآخر في حياتنا العادية.
يسير الفيلم على منهج المكاشفة والصدمة في عرض مباشر للأحداث دون مراوغة ، وهو ما يميزه عن الأفلام التي تتناول عالم الجريمة، لاسيما أنه يتمحور حول شخص واحد وهو ويتي بولجر، الذي جسده الممثل ذو الألف وجه كما يفضل معجبيه تلقيبه “جوني ديب”، حيث لم يتقن فقط الالتزام بملامح بولجر بل قدم أداء أوضح بتلك الملامح القبيحة لرجل العصابة النذل والذي يبيع العالم للنجاة.
ذو الألف وجه
تشير بعض الإحصاءات العلمية إلى أن التزام الشخص الصمت أثناء فترات الغضب الشديد قد تقود إلى رد فعل أكثر دموية عنفا، وهذا ما تعتمده شخصية بولجركما أداها ديب، حيث استخدم هذا السبيل في تخويف المشاهد مما هو منتظر من بولجر، إذ أن صمته يشبه هدوء ما قبل العاصفة التي كانت تهب على الشاشة في كل حركة من تحركاته التي مثلته كشخص غامض لا يتوقع منه سوى العنف.
العنف الهادئ
رغم وضوح الفيلم وتجسيده لعالم الإجرام بصورة بالغة الصراحة، إلا أن المشاهد لم يغرق في بحر من الدماء، حيث قدم المخرج سكوت كوبر إرهاصات للعنف ولحظات خاطفة بالغة التأثير تفى بالغرض المطلوب ولا تزيد على المشاهد في جرعة العنف المقدمة،فطوال الساعتين التي استغرقتهما شريط الفيلم على شاشة السينما لم يلجأ المشاهد إلى وسيلة إلهاء حيث أن إيقاع الفيلم التشويقي وخلوه من الحشو المبالغ ، جعل من الفيلم وجبة سينمائية جيدة للمشاهد، اعتمدت على تلاحق الأحداث والتفكير فيما هو منتظر من الشخصيات، وعلى ماذا تنتهى الأحداث الجارية على الشاشة،ورغم استخدام الفيلم لتقنية الراوي إلا أن العمل لم يقتصر على الرؤية الواحدة، ،لاسيما في النهاية مع الكشف عن مصائر الأبطال، أوبالأحرى الشخصيات المتصارعة ما بين العصابة والفيدراليين.
وجهان لعملة واحدة
الشقيقان ويتي بولجر، بيلي بولجر وجارهما جون كونولي جميعهم نشأوا في بوسطن في الحي ذاته، إلا أن كل منهم سلك طريقا مغايرا، حيث توجه ويتي إلى عالم الجريمة التى استهوت روحه المنتقمة،المتشوقة للدماء والقتل، فيما توجه بيلي بولجر الذي لعب دوره الإنجليزي المخضرم “بيندكت كامبرباتش” إلى العمل الجاد حتى وصل إلى مقعد سيناتور في الكونجرس، وتوجه كونولي الذي قدمه الإسترالي “جويل إجيرتون” إلى بلوغ مكانة مرموقة في مكتب التحقيقات الفيدرالية،ورغم تباين المكانة الاجتماعية إلا أن قاسما مشتركا ظل يجمع بين ويتي بولجر وجون كونولي الذين عقدا الصفقة المشبوهة، وأوضح الفيلم تلاقي الأرواح والسمات التي جمعت كل من بولجر وكونولي، ليقدما وجهان لعملة واحدة تختلف باختلاف المظهر ليس إلا.
معزوفة القداس
تعتبر الموسيقى أحد أهم ملامح القداس والتي كان لها حضور مميز وخفيف في الفيلم حيث قدم الهولندي توم هولكينبورج جملا موسيقية رغم كونها خفيفة على الاذن إلا أنها تترك انطباعا في الوجدان حول طبيعة الشخصيات والوقائع المذكورة، وتظل حاضرة في الذهن طوال أحداث الفيلم، كما تتلائم روح الموسيقى مع صوت الراوي الذي يسرد بعض من الأحداث،كما كان تصوير الفيلم أحد التقنيات الواضحة التي أبرزها كوبر مع مدير التصوير الياباني ماسانوبو تاكاياناجى، حيث شكلت تكوين الصورة بعدا جماليا للقبح الإنساني المقدم على الشاشة في تشكيلات هندسية وكادرات عالية الدقة في تكوينها، كان لها نصيب الأسد في الثناء الذي تلقاه العمل وقت عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في دورته الـ72.
رغم أن سكوت كوبرمازال يخطو خطوات أولية في مجال الإخراج، إلا أنه قدم فيلما يستحق المشاهدة والثناء والاعتراف بقدرته على إدارة فريق جيد لفيلم كشف ملامح الإنسان وروحه العميقة في صمت بالغ وصل للمشاهد دون تكلف أوإسراف في التقنيات الموظفة بالعمل.