هل يستأثر «العائد» بنصيب الأسد من جوائز الأوسكار ؟
الوكالات ـ «سينماتوغراف»
تبدو حبكة فيلم ” The Revenant”، المعروف تجاريا باسم (العائد)، هي الأبسط على الإطلاق كعمل سينمائي؛ فالأمر لا يعدو الحديث عن رجل يسير، ثم يسير، وبعد ذلك لا يُقْدِم سوى على مزيدٍ من السير. لكنه رغم ذلك اجتاح الساحة السينمائية، هذا ماشار اليه الكاتب والناقد السينمائي نيكولاس باربر، في بداية مقالته التي يستعرض خلالها بالرؤية النقدية فيلم (العائد) الذي تصدر قائمة الاوسكار لعام 2016 بترشحه لـ12 جائزة منها أفضل ممثل في دور رئيسي، وأفضل اخراج، وأفضل فيلم، فهل يستأثر على نصيب الأسد من جوائز أوسكار هذا العام؟!.
إذا كان فيلم “بيردمان”، وهو العمل قبل الأخير للمخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، والفائز بعدد من جوائز الأوسكار، قد بدا أشبه بدورة مُربكة ومفعمة بالحيوية بل ومُنهكة – بحق – بسبب ركوب القطار الدوار في الملاهي؛ كل ذلك وهو فيلم ينتمي لفئة الكوميديا السوداء التي تتناول مجموعة من الممثلين النرجسيين، فما بالك بما يمكن أن يفعله المخرج نفسه، بقصة عن الغرب الأمريكي المتوحش.
إذ تدور أحداث الفيلم الأخير حول رجلٍ يعيش على الحدود الغربية للولايات المتحدة يتعرض لهجوم من جانب أحد الدببة، ومن ثم يقوم برحلة مضنية يقطع فيها مسافة أميالٍ طويلة عبر تضاريس وعرة جدا، ويراوغ خلالها السكان التواقين للانتقام، وكذلك الجنود الأشرار الموجودين على طول الطريق.
لذا فلا يبدو مفاجئا أن يفوز فيلم “العائد”، أحدث أفلام إيناريتو، بثلاث جوائز كبرى من جوائز “غولدن غلوب” التي مُنحت مؤخرا في الولايات المتحدة.
واستُوحيَّ الفيلم من قصة حقيقية تستعرض محناً مر بها صياد للحيوانات ذات الفراء عاش في القرن التاسع عشر، وكان يُدعى هيو غلاس. والعمل مأخوذٌ عن قصة استعرضت حكاية هذا الرجل، ألفها مايكل بونك.
ويتسم هذا الفيلم المثير، الذي يدور حول نزعة الانتقام لدى بطله، بأنه عمل مكثف الأحداث يغمر مشاهديه بالانفعالات والمشاعر، إلى حد أنه يدفعك لأن تجفل وتقشعر بل وتحني رأسك للاختباء. رغم ذلك، فمع دنو الفيلم من نهايته، ربما يحملك إيقاع أحداثه على أن تنظر في ساعتك بضع مرات لتعرف كم من الوقت تبقى على النهاية.
على أي حال، تحتشد الدقائق الأولى من الفيلم بأحداث صادمة بقدر يفوق ما يجتمع عادة في مستهل أي فيلم آخر. فخلالها يقع “غلاس” (يؤدي دوره الممثل ليوناردو دي كابريو) ومعه مجموعة من الصيادين الذين يعمل مرشدا لحسابهم، في كمين ينصبه مقاتلو قبيلة أريكارا في غابة بعيدة عن العمران.
وفي محاولة مستميتة للتشبث بالحياة، يندفع الصيادون إلى قاربهم للإبحار في نهر ميزوري بينما تمزق السهام الهواء من حولهم، ليلقى غالبيتهم حتفهم – في نهاية المطاف – في مشاهد تم إعدادها على نحو دقيق ورائع، وتكاد توقف القلوب من فرط الإثارة، ما يجعل من الضروري إدراجها في أي قائمة مستقبلية لأروع مشاهد المعارك في التاريخ.
وهنا يقول “غلاس” إنه من الواجب على من تبقوا على قيد الحياة، ترك القارب والعودة سيرا على الأقدام إلى مخيمهم البعيد عن هذه المنطقة، إذا ما أرادوا النجاة من الموت.
ولكن يتبين أن مقاتلي “أريكارا” ليسوا مبعث الخطر المميت الوحيد في تلك المنطقة. فقد أنشبت أنثى دب عملاقة وغاضبة أنيابها ومخالبها في جسد “غلاس”، ليُنهش الرجل ويُعض بل ويُشوه، جزاءً لتصويبه بندقيته – خلال وقوفه وحيدا في الغابة التي يغمرها الضباب – باتجاه اثنين من أشبالها.
وبدت المشاهد التي تصور هذه الأحداث مذهلة بدورها، لاسيما وأن “إيناريتو” خبيرٌ في تقديم مشاهد الشجار العنيف والمعارك الصاخبة، سواء أكان الأمر يتعلق بمشاحنة بين ممثل وناقد في “بيردمان” أو باندلاع عنيف للشجار الضاري في “أموريس بيريس”؛ باكورة أعمال هذا المخرج والذي أُنتج عام 2000.
ولكن مشاهد العنف في “العائد”، والتي كانت مزيجا متجانسا من اللقطات التي تصوّر تمثيلا فعليا وتلك المعدة بواسطة الكمبيوتر، تجعل نظيراتها التي ظهرت في الأفلام السابقة أشبه بمشاحنات الصبية في فناء المدرسة.
المفاجأة أن هيو غلاس ينجو من الهجوم المروع الذي شنه الدب الرمادي عليه، ولكن متأخرا للغاية. فقائد مجموعة الصيد (يؤدي دوره الممثل دومينال غليسون) يفترض أن غلاس سيلقى حتفه متأثرا بجروحه الغائرة في غضون ساعات، ولذا يأمر رجاله بمواصلة رحلتهم الشاقة، تاركا ثلاثة منهم لمواراة غلاس الثرى على نحو لائق عندما توافيه المنية.
أما الثلاثي المتروك، فهم: الساخط دائما “فيتزغِرالد” (يجسد شخصيته توم هاردي) وعديم الخبرة “بريدجير” (يؤدي دوره ويل بولتر) بجانب هوك؛ وهو نجل غلاس (ويقوم بدوره فوريست غودلاك).
لكن لا يستهوي فيتزغِرالد كثيرا أن ينتظر في مكان قد يواجه فيه هجوما جديدا من مقاتلي أريكارا، فيطعن هوك ويترك غلاس لمصيره المميت، وينطلق عبر البرية التي يجتاحها الشتاء القارس، مع بريدجير ذي المشاعر المشوشة. ولكن لسوء حظ “فيتزغِرالد”؛ يقاوم غلاس الموت بعناد، ويسارع – مترنحا – بتعقب خطى من تركاه لحتفه.
وبمشاهده الجسورة التي تُظهِرُ كيفية مواجهة المشاق في هذه الغابات المقفرة التي تحيط بها قمم جبلية مهيبة، يبدو “العائد” مزيجا ما بين فيلميّ المخرج فرنر هيرتزوغ “أغيرو: غضب الرب” و”فجر الإنقاذ” اللذين يتناولان رحلات شاقة ومضنية، وعمليّ المخرج تيرنيس ماليك “العالم الجديد” و”شجرة الحياة” اللذين يبدوان أشبه بتأمل روحاني.
لا مصادفة في الأمر على أي حال؛ فالمسؤول عن التصوير السينمائي في الفيلم هو المبدع إيمانويل لوبسكي، الذي عمل عدة مرات مع المخرج ماليك. ورغم أن لوبسكي، عمل من قبل في أعمال سينمائية شديدة التأثير مثل “تشيلدرن أوف مِن” (أطفال الرجال) و”غرافيتي” (جاذبية) و”بيردمان” (الرجل الطائر)، فإنه يبدو وقد تفوق على نفسه في “العائد”.
ولذا فربما سيستحق المصوتون لمنح جوائز الأوسكار القادمة أن يهاجمهم دب هم أنفسهم، إذا لم يمنحوا هذا الرجل جائزة أوسكار أفضل تصوير سينمائي عن فيلم “العائد”، لتُضاف إلى مجموعته من هذه الجوائز.
أما بطل الفيلم دي كابريو؛ الذي فاز لتوه بإحدى جوائز “غولدن غلوب”، فثمة تكهنات حول إمكانية أن ينعم بدوره بمجد الأوسكار، غير أن ذلك يعود بشكل كبير إلى التقارير التي تحدثت عما كابده من معاناة خلال تصوير الفيلم.
فتصوير اللقطات الخارجية لـ”العائد” في درجات حرارة دون الصفر المئوي في كندا والأرجنتين، أجبر دي كابريو على التدحرج على سفوح ثلجية، والسباحة في أنهار متجمدة، والزحف على أرضية غابات تغمرها الطحالب، بل وأن ينشب أسنانه في كبد نيئ لحيوان الثور الأمريكي.
ومع أنه لن يكون هناك ضير أو جريمة، في أن يحصل دي كابريو على إحدى جوائز الأوسكار، بفضل ذاك الجهد المتفاني المفعم بالقوة والشراسة، فإن مسألة كون ذلك يتعلق بتمثيله في حد ذاته أم لا هي قضية أخرى. فنقطة ضعف “العائد” تكمن في البساطة المفرطة لحبكته، التي لا تعدو الحديث عن رجل يسير، ثم يسير، وبعد ذلك لا يُقْدِم سوى على المزيد من السير.
ورغم أن الكثير يحدث لهذا الرجل خلال سيره، فإن شيئا لا يتغير في واقع الأمر. فأحداث العمل لا ترغم بطله “غلاس” على اكتشاف أي شيء جديد بشأن ذاته أو اتخاذ أي قرارات صعبة خلال أسفاره. كما أن الحبكة لا تُملي عليه أن يغير استراتيجيته أو ينوعها، إنه حتى يتحدث بالكاد، ولا يُعنى سوى بمواصلة مسيرته الشاقة.
ويحاول المخرج إيناريتو إضفاء صبغة إنسانية على بطله، عبر مشاهد متقنة يتذكر في بعضها أحداثا جرت له في الماضي على طريقة الـ”فلاش باك”، وتنتابه في أخرى هلوسات أو تغمره ذكريات لشعارات تصدر منه همسا مثل: “ليقاتل المرء طالما ظل في صدره نفس يتردد”.
لكن دي كابريو يُبقي على ملامح العزم والتصميم الغاضبيّن التي ترتسم على وجهه منذ بداية الفيلم وحتى نهايته. ولذا، فبدلا من أن يُقدم “غلاس” كشخصية يهتم المشاهد بأمرها ويخشى عليها، فإنه يبدو في الأساس أشبه بشخصية بطل فيلم “تيرميناتور” (المُدَمِر)؛ ولكن بلحية كثة هذه المرة.
ورغم الصورة السينمائية الأخاذة التي يقدمها المخرج في الفيلم والطابع الحركي الهائل الذي يتسم به العمل، فإن بطله ذا التعبير الواحد المثير للسأم ربما يجعل المرء مدركا بشدة لطول مدته التي تصل إلى 156 دقيقة، والتي قد تبعث الخدر في أجساد مشاهديه.
ولا تجدي لعلاج هذه المشكلة تلك الحبكات الثانوية المتنوعة التي يتضمنها الفيلم. فالتركيز لبعض الوقت على أبناء قبيلة أريكارا – فيما يبدو استراحة من متابعة الرحلة المضنية لـ”غلاس” – أو حتى الحديث عن شركة فرنسية منافسة، تبدو كلها زائدة عن الحاجة.
وفي ضوء كل ذلك، يمكن القول إن شخصية فيتزغِرالد هي الشخصية الوحيدة المثيرة – بحق – للاهتمام في فيلم “العائد”، بكل ما يسودها من اضطراب، وما تتصف به من رغبة دائمة في تبرير أفعالها. ويعود هذا الاختيار لأسباب ليس أقلها شأنا كون هذه الشخصية – التي يجسدها هاردي – هي الوحيدة ذات الحس الساخر في الفيلم.
ربما يشعر المرء؛ وهو يرى هذا الرجل مُتحدثا عن التعرض لسلخ فروة الرأس أو مُرتجلاً لتهديدات أو حجج للحصول على ما يريد، أن الفيلم كان سيصبح أكثر تعقيدا وقدرة على مباغتة مشاهديه بأحداثه، إذا ما ركز على الرحلة التي خاضها فيتزغِرالد وبريدجير، وليس على تلك التي قطعها غلاس.
أما والفيلم يركز على رحلة الأخير، فإنك كمشاهد تبدو ملزما بالتأثر بما مر به الأبطال من معاناة، ولكنك لن تكترث بشدة بالشخصيات التي يجسدونها.