«حار جاف صيفا».. وميض الأمل يصنع المعجزات
انتصار دردير
فى كتب الجغرافيا كانوا يقولون لنا عن الطقس فى مصر أنه «حار جاف صيفا، دافئ ممطر شتاء»، من هذه المعلومة التى ترسخت لدينا ينطلق الفيلم الروائى القصير «حار جاف صيفا» للمخرج شريف البندارى، الذى اختير لافتتاح مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية فى عرضه الأول بمصر بعد أن شارك فى مهرجان دبى الماضى، الفيلم يلعب بطولته الممثل الكبير محمد فريد وناهد السباعى.
يأخذنا الفيلم الى شوارع القاهرة بكل تناقضاتها، من صيفها الحار الجاف، الى زحامها وفوضويتها، الى بهاء فن عمارتها، الى ناسها وأهلها، بعيون محب ينتقد مافيها، لكنه يعطيك لمحة أمل، ويترك فى نفسك شئ من التفاؤل، رغم كل شئ.
كيف يمكن أن تلتقى الأضداد وتتآلف؟ هل يمكن أن يتسبب لقاء الصدفة فى تغيير مصير انسان، أنه لقاء الماضى والحاضر، لقاء الشروق والغروب، عروس شابة فى يوم زفافها، ومريض بالسرطان على وشك الموت، كل يغنى على ليلاه، العروس مشغولة بتفاصيل زفافها، والرجل يتأهب للذهاب وحيدا الى طبيب ألمانى زائر للقاهرة ليحدد له مصير لم يعد مجهولا بعد أن فقد شعره ونحل جسده بتأثير العلاج الكيماوى، الزحام يجمعهما فى سيارة تاكسى، تحمل العروس متعلقاتها ومعها شنطة المريض التى تضم أوراقه المرضية وأشعاته التى سيعرضها على الطبيب فى موعد حجزه قبل شهرين، ويجد نفسه يلهث وراءها بكل ضعفه ومعاناته ووحدته، من الخياطة للكوافير، لمحل التصوير حتى يستعيد أوراقه، لتمضى الأحداث بين أجواء الفرحة وهواجس الموت.
ايقاع مثير يحكم الفيلم من أول مشهد وحتى يسدل ستار النهاية، وينجح مونتاج عماد ماهر فى ضبط هذا الايقاع، أما التصوير لفيكتور كريدى فكان بطلا رئيسيا بلقطات طويلة لشوارع وسط القاهرة التى جرى تصوير90 بالمائة من مشاهد الفيلم بها، والتي تغيب الموسيقى التصويرية تماما عنه ولا نلحظ غيابها لأن وجودها لن يكون مسموعا وسط ضجيج الشارع، ولأن عزف المخرج وبطليه وفريق عمله بالكامل تناغم فى سيمفونية بديعة.
يحمل الفنان محمد فريد -الغائب منذ فترة عن التمثيل – على عاتقه مسئولية الفيلم، يظهر وقد حلق شعره تماما بالموس، وقد استوعب الشخصية فى معايشة تامة، اهتم بالتفاصيل الصغيرة التى تحدث فرقا كبيرا، بايماءاته، بنظرات عينيه الذابلتين، بابتسامة تطل على استحياء وأمل يولد، فى احباطه المتواصل من وطأة المرض وانشغال ابنه الوحيد بذاته، يحجز له الطبيب ويعد أوراقه الطبية، ويتركه يذهب بمفرده وحيدا الى الطبيب، يدين الفيلم قسوة الأبناء تجاه الأباء، تطل ناهد السباعى بأداء سلس معبر يعكس حضورا لافتا مختلفا، تبدو توجيهات المخرج عامل حاسم فى هذا الاختلاف الذى يتفوق على أدائها فى أدوار كثيرة، تزيد مساحة الصدق فى أدائها، فى ضيقها من العريس الذى تركها تركب تاكسى يوم زفافها ليستقبل أهله، الذى يرفض أن تخلع الحجاب ليلة فرحها، هو لا يظهر فى أى لقطة لا صوت ولا صورة، لكنه حاضر على لسانها وهو مصدر تبرمها وحلمها.
يتأخر العريس عن التقاط صورة الزفاف ويرفضها، يقنع المصور الرجل المريض بأن يقف لالتقاط الصورة معها بدلا من العريس، ينجح فى اقناع العروس أنه يستطيع عن طريق «الفوتوشوب» أن يجمعها وعريسها فى الصورة، يقف المريض العجوز يحتضن العروس، يضع يده على خصرها، كأنه عريس فى ليلة زفافه، لا يسقط المخرج شريف البندارى فى هوة أحلام الرجل ليستعيد بطولة لم تعد، ولايتاجر بمشاهد لا أهمية لها، هذا المخرج الشاب الواعد، فى خامس أفلامه القصيرة يعلن عن موهبة كبيرة قادمة بقوة، تنبئ بانحياز واضح فى أفلامه لكل ماهو صادق وانسانى ،من اختياره لموضوع كتبته نورا الشيخ، ليقود اوركسترا هذا الفيلم شديد الانسانية.
حين يطالع الخبير الاجنبى أشعات وتحاليل المريض شوقى يقول للطبيب المصرى بالانجليزية «أنه حالة ميئوس منها، مجرد شهور يقضيها» ثم يأت مشهد النهاية بعد عام وأكثر على العروس وقد صارت أما لطفل يلهو بألعابه، بينما العروس حاملا للمرة الثانية، لتقطع الكاميرا على العجوز شوقى وقد جلس فى شرفة منزله، يقضم بعض الفاكهة وقد تبدلت أحواله وتحسنت صحته، وصورة الزفاف مع عروس الصدفة معلقة على الحائط، لقد منحته الصورة قبلة الحياة، بينما صوت عبد الوهاب ينساب من الراديو«لأ مش أنا اللى أبكى والا أنا اللى اشكى لو جار على هواك».. ويستمر الغناء مع تيتر النهاية.
أنه فيلم قصير فى زمن عرضه لكنه عميق بتأثيره.