«كافيه سوسايتي».. فيلم يشبه الحياة مع تأملات وودي آلن
«كان» ـ سينماتوغراف: صفاء الصالح
في انتاجه الغزير «فهو يصور فيلما صيف كل عام تقريبا»، يبدو وودي آلن وكأنه يصنع فيلما واحدا مستمرا، يقتطع مشاهد مختلفة من الحياة في جريانها المستمر ويقدمها عبر وجهة نظر شخصية ساخرة وينثر بينها بعض تأملاته في معنى الحياة أو الموت أو عبثيتها.
وهكذا يواصل فيلم «كافيه سوسايتي» ترديد أصداء من أفلام وودي آلن الأخرى، وتأملاته في الحياة والموت، الواقع السينمائي والواقع الحقيقي، الحب والرغبة، البراءة والزيف، الشعور بالذنب، التفسيرات الدينية التي يغلفها بحس من السخرية، العودة أو الحنين إلى زمن مضى وغيرها.
ويتحرك آلن في فيلمه الجديد بين نيويورك «مكانه المفضل الذي ولد وترعرع فيه وصور فيه معظم أفلامه» وهوليود التي مر عليها في عدد من أفلامه، كما هي الحال في «نهاية هوليودية» و«ذكريات ستاردست»، وعندما يقدم مشاهد مدينته نيويورك تأتي هذه المرة بلمسة تحد من المصور البارع ستورارو لأحد أغنى افلام ألن بصريا، فيلم “منهاتن”.
ومثل المخرج نفسه، يبدو بطل الفيلم بوبي «أجاد أداء دوره الممثل جيسي ايزنبرغ» نيويوركيا من عائلة يهودية من حي برونكس لا يحب العمل مع والده «كين ستوت» فتتوسط امه له لدى اخيها فيل «أدى دوره بتميز الممثل ستيف كارل» والذي يعمل وكيلا شهيرا للفنانين في هوليود، ويبدو شخصية مواربة ومبالغة وغير مستقرة وطريفة في الوقت نفسه.
ويجد الخال فيل لابن اخته عملا هامشيا الى جانبه، ويطلب من سكرتيرته فوني «فيرونيكا ـ الممثلة كرستين ستيوارت» العناية به وتعريفه على المكان، لكن بوبي الشاب الرومانتيكي الذي ما زال يحتفظ بالكثير من سمات براءته يقع في حبها، ربما لم تعد فوني السكرتيرة تحتفظ بالكثير منها فهي قد سبقته الى عالم فيل «بكل فيه من رياء وزيف».
ويكتشف بوبي لاحقا أنها على علاقة غير مستقرة مع خاله، فنراه يقترب اليها بقوة ثم يطلب منها الابتعاد عنه لأنه لا يستطيع ترك زوجته، لكنه يعود اليها بقوة حين يكتشف علاقتها مع ابن اخته. وتصبح هذه العلاقة الثنائية مصدر مفارقة وسخرية في الفيلم.
وبعد أن يحصل بوبي على فرصة عمل في ناد ليلي في نيويورك بتوسط من خاله، يقرر العودة الى مدينته ويطلب من فوني أن تتزوجه لكنها تختار الزواج من خاله الذي عاد اليها.
ومع الانتقال إلى نيويورك يتخذ السرد بعدا آخر في متابعة حياة بوبي ونجاحه في عمله وانتقاله من مرحلة الشاب الحالم البريء الى الرجل العملي الذي يتقدم في عمله بنجاح.
كما نتابع أحوال مجمل عائلته الكبيرة، لاسيما حياة أخيه بن «كوري ستول» الذي اختار أن يكون رجل عصابات قاس يقتل ضحاياه بسهولة ويدفنهم في الخرسانة اثناء صبها، ونراه لاحقا يحكم بالاعدام ويستغل آلن كعادته هذا الخيط السردي ليقدم تأملات ساخرة من عالم ما بعد الموت مع اقناع قس لبن بالتحول الى المسيحية قبل اعدامه، ليضمن حياة افضل ما بعد الموت حسب تعبيره! واختياره لاحقا حرق جثته وذر رماده في الحديقة قرب النادي.
وبعد أن يتزوج بوبي من امراة تحمل اسم حبيبته نفسه وينجبا طفلا، يظهر خاله يوما مع زوجته في النادي، فينهض في داخله من جديد حبه لها، ويلتقيان في أكثر مرة معا وسط انشغالات خاله في نيويورك، وينهي آلن فيلمه بنهاية مفتوحة بنظرة حالمة ممتلئة بالحنين من بوبي وفوني رغم أن كل واحد منهما وسط عائلته في مكان مختلف.
في بنائه السردي حرص آلن على أن يستخدم صوت الراوي العليم لرواية أحداثه، والتعليق الساخر في الغالب عليها، وقد أداه بصوته طوال الفيلم. إذ حرص، كما اشار في مقابلة مع مجلة هوليود ريبورتر، على أن يترسم شكل الرواية في سيناريو فيلمه «أردت أن اقدم نوعا من الرواية في الفيلم عن عائلة وعن العلاقات بين أفرادها بعضهم مع بعض، وعلاقة الحب التي يعيشها البطل. أردتها أن تمتلك بنية الرواية، كي أتمكن من الحركة حول الشخصيات والتمعن في مختلف أعضاء العائلة. لذا رويت الاحداث بنفسي لأنني كنت ها نوعا من كاتب الرواية التي ستخبرها عندما ترى الفيلم».
وكعادته أيضا ظل الن ينثر تعليقاته الساخرة على امتداد الأحداث كما ينثر اشارات غلى شخصيات فنية شهيرة في هوليود وأماكنها.
وآلن مخرج ممثلٍ بامتياز ينجح في قيادة ممثليه في الغالب لتقديم أفضل ما لديهم في تقمص شخصياتهم. وقد نجح هذه المرة في استخلاص أداء رائع من الممثل جيسي ايزنبرغ «يتذكر البعض اداءه لدور مارك زوكربيرغ مؤسس موقع فيسبوك، الذي ترشح عنه للبافتا وللاوسكار» في دور بوبي، حيث عكس ذلك الانتقال من صورة الشاب الحالم والمتمتع بقدر من البراءة إلى صورة الشخص العملي مع ظلال من تلك الحلمية والبراءة.
وحاولت ستيورات أن تعكس سلبية شخصية فوني، وتوزعها بين طموحاتها للوصول في عالم هوليود المزخرف وبقايا براءتها وحلميتها.
وهذا هو الفيلم الثاني لها في المهرجان الى جانب فيلم المخرج الفرنسي أسايس «بيرسنال شوبر»، وكانت قد حصلت عن فيلمه «غيوم سيلس ماريا»، الذي وقفت فيه الى جانب النجمة جوليت بينوش، على جائزة سيزار افضل ممثلة مساعدة. وكانت قد اشتهرت بادائها في سلسلة افلام مصاصي الدماء «شفق» Twilight.
وبدا تعاون آلن مع ستورارو العنصر الأبرز في هذا الفيلم، إذ صبغ الاخير المشاهد بصبغته ولمسته الفنية المميزة، فوجدنا غلبة اللون الجوزي وتدرجاته، الذي يوحي بالعتق ويعكس بنظر سترارو حقبة الثلاثينيات، على معظم مشاهد الفيلم لا سيما تلك التي يظهر فيها بوبي، وانسحب ذلك على الملابس اذ لم يظهر بوبي طوال الفيلم الا بملابس من هذا اللون.
وفي المقابل نجد غلبة اللون الازرق وتدرجاته على المشاهد التي يظهر فيها الخال في هوليود، كما هي الحال مع مشهد الافتتاح الرائع للحفلة في هوليود وقت الغروب على حافة زرقة مياه المسبح التي طغت على كل شئ، او في مشهد الحفلة في النهاية الذي تخللته الى جانب اللون الازرق ألوان حارة من الاحمر والاسود في هارموني حاد.
وبرع ستورارو في توزيع مساقط الضوء في مشاهده على شخصياته او تفاصيل المكان فبدت أشبه بلوحات، كما ينثر في ديكور هذه المشاهد الكثير من اللوحات الشهيرة التي فيها ايضا إحالات مرجعية في تصوير العمل، كما هي الحال مع لوحة الفنان الايطالي من عصر النهضة غيسيبي ارسيمبولدو الذي اعتاد رسم بورتريهات غريبة بشخصياته بالخضر والفاكهة ، واللوحات التي زينت مكتب فيل.
وصور ستورارو، الحاصل على الأوسكار اكثر من مرة عن أفلام «القيامة الان» 1979 و«ريد» 1981 و «الامبراطور الأخير» 1987، فيلم «كافية سوسايتي» بكاميرا رقمية من نوع سوني «CineAlta F65» التي تعطي مواصفات للصورة اشبه بتلك المصورة بكاميرا 35 ملم، وهذا الفيلم يعد أول انتقالة لوودي آلن من الفيلم السينمائي إلى عالم السينما الرقمية.