مقال لنور الشريف يتحدث فيه عن فيلم وشخصية «ناجي العلي»
القاهرة ـ «سينماتوغراف»
في 29 اغسطس المقبل تمر الذكرى 35 لاستشهاد الفنان ورسام الكاريكاتير والمقاوم الفلسطيني ناجي العلي، وترصد «سينماتوغراف» من خلال مقال قديم كتبه الممثل القدير نور الشريف رؤيته وتحليله عن فيلم وشخصية «ناجي العلي».. وكيف جسدها وما الذي حمسه لانتاج هذا العمل السينمائي.
هل لأنه ناجي العلي أم لأنني نور الشريف أكتب هذه السطور؟، لا أدري وإن كنت أعتقد أنه لا فرق..!لا أستطيع أن انسى هذا العام.. عام (1990) حين خضت تجربة تصوير فيلمي (ناجي العلي) مع المخرج الراحل عاطف الطيب… كنا، كل فريق الفيلم، مشتعلين بالحماس، وكل منا بدا كما لو كان يشكل نقطة تحول مهمة في مسيرته الفنية، وكنت راضيًا عن نفسي بنسبة كبيرة، لأن العمل يحتل المقام الأول في حياتي وحبي له يصل إلى حد الجنون، ورغبتي في التجديد ملحة دائمًا، وكذلك الجدية في اختيار الموضوعات، وهي النواحي التي توافق مرحلة ما بعد الانتشار في حياة الفنان لتحقيق درجة من النجاح، بحيث يصبح مطلوبًا في السوق الفني، أي أنه لا يقبل الأعمال الجماهيرية فقط, لأنها تقوده إلى نهاية مؤسفة، فالفنان الذي يصل إلى مرحلة الانتشار في السوق يجب أن يعتمد درجة من التوازن حتى لا يفقد الإيمان الشعبي به، ويقوم هذا التوازن على طرح الأفلام الشعبية، في الوقت الذي يستغل فيه كفاءته لتقديم أعمال فنية لا يستطيع تقديمها الجيل الجديد.. ومن هنا انطلقت إلى (ناجي العلي).. و(ناجي العلي) لم يكن مجرد فيلمًا جادًا في مسيرتي، كان دليلي الذي قادني إلى مرحلة النضوج في زمن التردي السائد في معظم الإنتاج الفني، سواءً على المستوى السينمائي أو المسرحي أو الموسيقى أو حتى التلفزيوني. كان هو البديل المطلوب للأفلام المبتذلة أو أفلام المقاولات التي تتعمد الابتعاد عن صلب الهموم الكبرى والموضوعات الجوهرية، وتعمل على طمس المشكلات الإنسانية والقومية والوطنية من خلال طرحها لموضوعات سطحية تخاطب الغرائز وليس العقول والقلوب.
(ناجي العلي) فيلم الوطن والحرية، الوطن فلسطين وهي القضية القومية الأهم ومحور الصراع العربي الصهيوني، والحرية هي المشكلة المركزية في وضعنا العربي، ومن خلال هذا الفيلم سعينا لطرح رؤية فنية سينمائية شكلًا وموضوعًا تُحاكي الفكرة جمالا وجدية. وبالطبع كانت هناك أسباب أخرى غير رغبتي الملحة في التجديد لخوض تجربة (ناجي العلي) أهمها أن صورة القضية الفلسطينية غير واضحة تمامًا، لأن اختلاف وسائل الإعلام شوّه هذه الصورة، وحدث تصيد لأخطاء بعض الشخصيات الفلسطينية، لذا فإن حماسي انصبَّ على مواطن فلسطيني من داخل الارض المحتلة لم يتغير ورغم تنقله من قُطر إلى قُطر إلا أن فلسطين ظلت تسكن داخله.. هذا المواطن البسيط عاش حياة صعبة رفض خلالها التضحية بفنه وقضيته.
تعاملت مع (ناجي العلي) على مستويين: القضية الفلسطينية، والأرض، وهي دائما الرمز للفنان الملتزم.. الفنان الذي لا يبحث عن تبرير لانهياره أو ضعفه أو ابتعاده عن قضية، بل يصرُّ على موقفه دون الخضوع للتيارات الحزبية.
إن حماسي لناجي العلي كان ينبع من التعلق بالقضية الفلسطينية بعيدًا عن التحيز والضغوطات، إنه يحمل وجهة نظر المواطن العربي الفلسطيني، وهو ما دفعني لأن أعتقد أنه النموذج الرائع لغياب الحرية، لأنه لا يمسك مدفعًا ولم يؤلف حزبًا بل قلما وريشة وحبرًا وأوراقًا فقط لا غير، إنه فرد يقف في الساحة وحده، بل إنه ضعيف البنية، ولو كانت هناك مساحة من الحرية لأصبح (ناجي) هو المرشد في رحلة الصواب لأنه يعكس نبض المواطن الفقير؛ مواطن المخيمات، لكن ما حدث هو العكس, فغياب الحرية والديمقراطية قتله.
هناك التباس يحدث عند الناس دومًا ومحوره أن الحرية تعني إطلاق الرأي فقط، لأن الآخر سيستمع إليه ولا يفهمه، لكن الحرية أن تقول رأيك ولا يقتلك الطرف الآخر.
وعلى هذا المستوى نجد أن ناجي العلي هو الضمير القوي للعديد من القوميين العرب، لقد اختار طرح الرأي الجزئي والصريح دون تردد ولا خوف، لأن الصراحة صعبة حتى في الحوار، حيث لكل طرف تبعيته، فكيف الحال إذا كان هذا الشخص فنانًا يطرح كل أخطاء الأنظمة.
ظللت عامين أو أكثر أتابع الموضوع وأجمع المعلومات وأقابل أصدقاء ناجي من الكويت ولندن والدول العربية وسجلت لهم كمًا من الحوارات لا يمكن وصفه، وهذا المشوار من البحث والتقصي كان لابد منه، لأن الشخصية حين تكون قريبة منك وفي عصرك من الصعب أن تصل إلى الحقيقة كاملة، والحمد لله قدمت ناجي في فيلم, هو في الحقيقة فيلم عن الوطن والحرية، وأنا مرتاح الضمير, فالنقطة الأساسية فيه كانت عن القضية الفلسطينية من خلال مأساة فنان مبدع وملتزم.
ورغم فرحتنا الغامرة أنا وصديقي الكاتب وليد الحسيني شريكي في إنتاج الفيلم وصديقي المخرج الراحل المبدع عاطف الطيب، وكل أسرة الفيلم الرائعة بعرض الفيلم جماهيريًا، إلا أن فرحتنا كادت تختنق على يد الهجوم العنيف الذي قادته إحدى الصحف المصرية ضد الفيلم وضد شخصية ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني، الذي عاش عمره كله محاربًا ومعتركًا بريشته ضد الإحتلال والاستسلام والتفكك العربي.
صوّرنا الهجوم، نحن فريق الفيلم، كما لو كنا مجموعة من الخونة صنعوا فيلمًا خصيصًا ضد مصر، حتى أنهم كتبوا وقالوا نور الشريف يقوم ببطولة فيلم الرجل الذي (شتم) مصر في رسوماته، والحقيقة أن هذا الاتهام باطل، فـ (ناجي العلي) كان يعشق مصر لأبعد الحدود وهذا ما توضحه رسوماته، ولكنه هاجم السادات عند زيارته للقدس، وهاجم اتفاقية كامب ديفيد، ناجي العلي لم (يشتم) مصر ولكنه عبَّر عن رأيه في رفضه لـ (كامب ديفيد)، وهذا كان موقف كل العرب آنذاك ومعظم المثقفين المصريين.
سار الهجوم على الفيلم وفق سيناريو محبوكـ وربما أفلح في التأثير على بعض البسطاء الذين لا يعرفون ناجي العلي، ولم يدم هذا طويلًا فالغشاوة سرعان ما تزول، ويكفيني الاستقبال الحار الذي استقبلت به في بعض الجامعات المصرية والجهات الأخرى حيث تم عرض الفيلم، وعقدت ندوات مفتوحة شارك فيها الآلاف ممن لم يتأثروا بهذا الهجوم. كل هذا شد من أزري وساند موقفي في الصمود وعدم الاستسلام وإصراري على أن (ناجي العلي) من أهم أفلامي وسأظل أفخر به دائمًا، بل وسأظل أحلم بمواصلة مشواري على نفس الدرب وتقديم شخصيات أخرى تشبه ناجي العلي، وتاريخنا العربي زاخر بها، ولن يرتاح بالي إلا إذا فعلته.