انجريد برجمان تشهد له بالعبقرية وبطلة الطيور تتهمه بالسادية
سينماتوغراف” ـ جايلان صلاح
هيتشكوك العظيم، ملك الإثارة والتشويق، وصاحب التكنيك العبقري في الإخراج، ماهو إلا مجرد مخرج مهووس بالمرأة، لا ككيان آخر غامض وغريب، بل كدمية جميلة يتم استخدامها، وإدارتها، والعبث بها، و-غالباً- قتلها في النهاية في أفلامه التي لم تكن أبداً رحيمة أو رفيقة بالمرأة. فالنساء هن غالباً لصات، أو عاهرات، أو قاتلات، أو زوجات ساذجات وفي جميع الأحيان، هن شقراوات جميلات ولكن فارغات العقل.
من بين 47 فنانة عمل معهن ألفريد هيتشكوك، كانت أشهرهن: جوان فونتين، إنجريد بيرجمان، جريس كيللي، كيم نوفاك، جانيت لي وتيبي هيردن، حيث تمحورت معظم أدوارهن في شخصيات هامشية مقابل الاهتمام بالأدوار الذكورية. ما بين جانيت لي، اللصة التي يقتلها قاتل مصاب بعقدة أوديب في Psycho وجريس كيللي، فتاة المجتمع الأنيقة والتي تساعد حبيبها في كشف جريمة قتل يعتقد أنه رآها من خلال نافذته في Rear Window ، وكيم نوفاك، الجميلة التي تخفي أسراراً وراء جاذبيتها والتي تصبح هدفاً لهوس المحقق المصاب بعقدة الأكروفوبيا في Vertigo.
وغالباً كانت حياة البطلات تنتهي في أفلام هيتشكوك إما بالقتل أو بالعقاب، فكل خطوط المرأة الدرامية في أفلامة تضعها في خانة الخاطئة المذنبة، والرجل -حتى القاتل المعقد المتعطش للدماء- ما هو إلا ضحية لإمرأة شريرة، متسلطة أو مخادعة.
وتبدو عقدة المرأة والجنس متأصلة لدى هيتشكوك منذ اعترف بميله لاختيار الشقراوات ليكن بطلات أفلامه، فهن، حسب أقواله، “في جمال الثلج النقي حينما تظهر عليه آثار أقدام دموية”.
وفي حواراته مع فرانسوا تروفو، المخرج والناقد السينمائي الأشهر عام 1967، أعلن هيتشكوك عن رأيه الصريح بتفضيله الشقراوات الراقيات اللاتي لا يظهرن إغرائهن إلا متأخراً وبأسلوب يحمل لغزا. وقد مثلت مارلين مونرو بالنسبة له “الجمال السوقي المعروض بفجاجة” ليؤكد بذلك قناعته بأن الإغراء غير المباشر يمثل إثارة للمشاهد تعادل أكثر مشاهد أفلامه تشويقاً، فالرجال دوماً، “وراء المرأة الراقية الهادئة التي تنقلب عاهرة في الفراش”.
ولم يكن عشوائيا اختيار هيتشكوك للشقراوات الجميلات وتعذيبهن على الشاشة. فثمة ممثلات كثيرات تكلمن عن وحشيته في التعامل معهن وراء الكاميرا، وهو ما وصفته الممثلة فيرا مايلز بهوس هيتشكوك ببطلاته ومحاولته قولبتهن في إطار خاص لا يستسيغه أحد سواه. كما أفضت للصحافة بسوء معاملته لها عند علمه بحملها والذي تسبب في اعتذارها عن فيلم Vertigo. كما ذكرت أن هيتشكوك كان يتدخل في حياة بطلاته بأسلوب جنوني، فيملي عليهن كيف يلبسن وكيف يسرحن شعورهن كما يتدخل في أدق تفاصيل حياتهن الشخصية.
وربما لم تعان ممثلة من تسلط وسادية ألفريد هيتشكوك مثلما حدث لتيبي هيدرين بطلة The Birds ، فأشارت في حوار لها مع الناقد والكاتب دونالد سبوتو إلى أن أن هيتشكوك سادي مريض، ومعقد جنسياً، يستمتع بتعذيب النساء الجميلات على الشاشة وفي الواقع.
وليس هناك أكثر دلالة على ماقالته هيدرين من ذلك المشهد الذي أرعب كل من شاهد فيلم The Birds حيث دخلت البطلة ميلاني غرفة بمنزل حبيبها، لتجدها موطنا لآلاف الطيور المتوحشة، والتي تندفع نحوها مهاجمة في شراسة. كما يبدو هذا المشهد مثيراً للقشعريرة في الحقيقة، كان تجسيده في الواقع أكثر إيلاماً، فقد تعرضت هيدرين في هذا المشهد إلى النقر والضرب من طيور حقيقية مهتاجة قيدت إليها بسلاسل على مدار خمسة أيام، ولم يلتفت أحد لصرخاتها واستنجادها، بل على العكس، ظل هيتشكوك واقفاً يستمتع بالمشهد الحي أمامه. بعد انتهاء المشهد وتأذي هيدرين نفسياً وبدنياً، تم نقلها للمستشفى في حالة سيئة للغاية وأوقف التصوير لمدة أسبوع حتى تتعافى مما حدث.
ووفقا لروايات أخرى، أكد فيها النقاد أن مشهد الدش المثير في فيلم Psycho ما هو إلا انتقام هيتشكوك من جريس كيللي في صورة جانيت لي، والتي تلقت أكبر عدد من الطعنات وأصبحت صرخاتها من أشهر مشاهد الرعب في تاريخ السينما، وهو المشهد الذي حول “الدش” إلى مكان شديد الرعب بالنسبة لفتيات ذلك الزمان، حتى أن معظمهن كن يتخوفن من الاستحمام في أوقات متأخرة.
هل كان هيتشكوك يعاني من مركب نقص ؟ إن الإجابة عن السؤال يجب ألا تغفل ما ذكرته بعض النجمات من بطلات أفلامه في مقابلات تمت معهن. فقد نفت جانيت لي أن يكون هيتشكوك قد أساء معاملتها على الإطلاق، كما وصفته إنجريد بيرجمان ب”العبقري المحبوب”. وممالا شك فيه أن هيتشكوك كان مسيطرا ومتمكنا من أدواته، يعامل ممثليه باستعلاء، ويعشق إثارة الجدل عن طريق الإيحاءات الجنسية والعبث بعقل المشاهد، لكن إلى أي مدى كان توظيفه للمرأة في أفلامه موفقاً؟
وكذلك كان رأي الفنانة البريطانية الأسطورية هيلين ميرين -وهي التي أدت دور زوجته ألما ريفيل في فيلم هيتشكوك من إخراج ساشا جيرفاسي عام 2012 فهي تعتبر أن هيتشكوك لم يكن مخرجاً متحرشاً وإلا لافتضح أمره في الوسط الفني. وهو في رأيها رجل عبقري، لطيف، ذكي، يمتلك روح دعابة عالية و”طنا” من العقد النفسية”.
وفي كتاب “ألفريد هيشتكوك ونافذته الخلفية” يصف مؤلفه جون بيلتون أيقونة هيتشكوك السينمائية Rear Window بأنها احتفالية بالأنوثة، وأنها تتضمن تأويلات كثيرة عن النظرة الذكورية للمرأة، والتلصص عليها، والانجذاب لها ومدى انعكاس ذلك على الرجل، خاصة إن كان التلصص لا يتعدى هذه الخطوة.
ودائما في أفلام هيتشكوك، كان هناك تلاق بين الجنس والموت والإثارة. ولم تكن المرأة عنصرا خاملاً، لكنها أيضاً ليست محركة دمى. ربما يمكن اتهام هيتشكوك بالذكورية والتعسف ضد المرأة، لكن اتهامه بالسادية وتأويل رؤاه الإخراجية على خلفية الواقع فيها بعض من الإجحاف ومحاكمة فات أوانها كثيراً. لكن ما لا شك فيه، أن هيتشكوك سيظل أيقونة مشككة لأفكارنا، متلاعبة بأعصابنا وخواطرنا، سواء كنا رجالا أو نساء.
المصادر:
كتاب أسير الجمال: ألفريد هيتشكوك وبطلات أفلامه لدونالد سبوتو