«بين النجوم» .. عندما يقبل المتلقى الرشوة من المبدع
«سينماتوغراف» ـ أمجد جمال
كانت صناعة السينما دائما ومنذ نشأتها عبارة عن عالم فسيح الأرجاء ومليء بالمواهب من أهل الإبداع : كتابة وإخراجا وتمثيلا وتقنيات تقف بصلابة ووعي خلف ملايين المشاهد واللقطات التي تتجسد على الشاشات عندما تنقلها شرائط الأفلام.
وفي هذا العالم المليء بالصور والحوارات تتزايد حركة ومسارات العاملين فيه وفق مدارس فنية لكل منها توجهات تتحكم فيما تقدمه الاستديوهات من منتجات فيليمية تنقل رؤى صانعيها بكل ما يحملونه من عقائد وأفكار.
وعند حديثنا عن فيلم “بين النجوم” للمخرج والمؤلف الأمريكي كريستوفر نولان لابد أن نشير إلى أن الجميع كان يلصق به دائما تهمة تهميش دور العاطفة والمشاعر بأفلامه، وإلى درجة أن وصل البعض إلى وصف هذه الأفلام بأنها أفلام صنعها “روبوت” ليستمتع بها مجموعة من الروبوتات، حيث تطغى الحبكة كما فى “العظمة
– The Prestige” و “البداية – Inception” أو الأفكار السياسية كما فى سلسلة فارس الظلام أو أسلوب السرد كما فى “تذكار المُتلاعِب– Memento”، فقد كان الأمر دائماً يقتصر على التكنيك وعلى حساب ما يمكن للمتفرج المتصالح مع إنسانيته وينتظر من الفن دوراً أكثر تنقيباً فيما وراء التورط عاطفياً معه ومن الصعب مثلاً أن تجد بأفلامه السابقة أثراً لشخصية محببة Likeable Character (الجوكر شخصية كاريزماتية وليست محببة)، أو هماً إنسانياً أقل بدائية من همّ البقاء الذى هو بالأحرى ليس همّا بل غريزة متأصلة تسبق حتى غريزة الجنس.
وهنا يأتي السؤال : هل تغيّر ذلك بفيلمه الأخير “بين النجوم – Interstellar”؟ الإجابة ستكون بنعم، ولكنها نعم حذرة لأن ما نتج عن هذا التغير من مزيج الجودة الصارخة بالسوء الفاضح كان مدهشاً ومثيراً للدرجة التى تجعلنا غير متأكدين إن كان تغيراً صادقاً أم أنها لعبة أخرى من ألعابه هدفها السخرية ممن إنتقدوا تهميش ذلك الجانب العاطفى بأفلامه السابقة.
فى المستقبل القريب الذى يقدمه “بين النجوم” تكون الحياة على الأرض على شفا النهاية، الغلاف الجوى يعانى مشكلة، الجفاف يضرب كل شىء، الأكسجين يتناقص، محاصيل القمح تعانى من تغير مناخى يتسبب فى أزمة غذاء عالمية، “لم تعد الأرض بحاجة لمهندسين بل لمزارعين”، هكذا رد مسئول المدرسة على “كوبر” (ماثيو ماكونواى) بطل الفيلم الذى أراد الحاق إبنه بكلية الهندسة، قبل أن يتواصل بشكل ما مع وكالة “ناسا” التى أضحت تعمل بشكل سرى نظراً للرفض المتوقع تبنيه من الشعب حيال مبدأ التمويل الحكومى لمؤسسة كتلك فى وقت تعانى الأرض من أزمة غذاء، ثم يتم تكليف “كوبر” من قبل الوكالة بالذهاب فى رحلة مكوكية إلى الفضاء الخارجى لتتبع أثر رحلات قد تم إرسالها لإستكشاف كواكب تصلح للحياة فى مجرات أخرى لإنقاذ السلالة البشرية من خطر الفناء الذى أصبح يحاصرها.
نولان … يقود العلم سينمائيا
وهنا ربما يتفق معنا الجميع على أن إنقاذ العالم والفضاء هما أكثر التيمات استهلاكاً بالإنتاجات الكُبرى لهوليوود، فما الذى يجعل هذا الفيلم مميزاً؟، لكن هناك أشياء عديدة تجعل فيلم “بين النجوم” يتميز عن سابقيه ، ومنها: عدم المبالغة فى تأسيس قصة قائمة على الخيال العلمى والإعتماد على اكتشافات ونظريات علمية معروفة وأقرب للحقيقية، واللعب على تحديات مثل المشكلة البيئية المناخية، أضف إلى ذلك اختيار زمن المستقبل القريب الذى لا يختلف عن زمننا الحاضر بتفاصيل ملحوظة، ما يعطى الفيلم بُعداً أكثر واقعية عن أغلب ما تم تقديمه ومن ثم فرصة أكبر لتحييد المتفرج عن حالة أنه يشاهد فيلماً، ربما يتشارك فيما سبق مع أفلام أخرى كان آخرها “جاذبية – Gravity” لكن الأول استطاع تعويض أغلب عيوب الأخير مثل تسطيح الشخصيات وغياب تاريخها وبالتالى غياب مبرر قوى للتعلق بها والإهتمام بمصيرها، مع إفتقاد صراع روائى حقيقى، فالصراع فى الأخير أقرب إلى التجربة التى قد تمر بها داخل جهاز “سيميلوتور” بأى مدينة ملاهى أو مشاهدة مباراة كرة قدم مثيرة، وليس دراما حقيقية يمكنك مشاهدتها لأكثر من مرة. وميزة أخرى بـ Interstellar والتى ستكون عيباً فى أوقات هى أنه يسلك مسلكاً علمياً لكنه لم يسمح للعلم بأن يقوده بل هو من قاد العلم.
ترتبط الحالة التسويقية لأفلام نولان بتكريس فكرة تفيد بأن هذا الفيلم للأذكياء فقط، هذه المرة الحالة فى قمتها، خاصة مع تضمن أحداث الفيلم لإحدى تجليات النظرية النسبية لأينشتاين، لدرجة جعلت كثيرون على شبكات التواصل الإجتماعى يرددون دعابة أن هناك من يتأكد من نتائج المتفرج بمادة الفيزياء بالمرحلة الثانوية قبل بيعه تذكرة لمشاهدة الفيلم، تلك الحالة الأسطورية الخرافية التى تصاحب أفلام نولان تعطيها هالة مضللة لا تستحقها فى أغلب الأوقات، خاصة بهذا الفيلم الذى يعد فى رأيى من أبسط أفلام نولان وأكثرها تفصيلاً وألفة بالمشاهدة.
وعلى صعيد القصة والسرد والحبكة الذين جاءوا تقليديين للغاية ومتبعين للأسلوب الخطّى Linear الموجود بكتب تعليم كتابة السيناريو البدائية، بداية ووسط ونهاية وصراع، هناك رحلة للبطل بعد البداية، يجب ألا يقبل البطل خوضها بسهولة، حيث خلق تحديات مستمرة فى رحلة البطل، وجعله معرضاً للهلاك بعد منتصف الفيلم بقليل، وإن لم تجد خيطاً موصلاُ لنهاية مرضية فعد إلى بداية السيناريو أزرع ما يمكنك استغلاله من أجل النهاية …إلى آخر تلك الملاحظات التى تملأ الكتب، لعل ذلك موجود بمعظم الأفلام ولكن هنا الأمر أكثر وضوحا ومباشرة .. هذا على الصعيد القصصى.
أما على الصعيد العلمى، فلا يوجد أيضاً ما يثير اللبس والحيرة، أولاً ثق بأن الشركات الممولة فضلاً عن نولان يعون تماماً بأن الفن لم ينشأ من أجل أن يزايد المبدع على معلومات المتلقى فى موضوع ما، ثانياً فما حدث مع كل تفصيلة لها علاقة بالعلم داخل الفيلم تم المبالغة الشديدة فى شرحها، لدرجة تشعرك فى أوقات أنك داخل محاضرة لتعليم الفيزياء الكونية، هناك مثلاً مشهد حوارى بين ماثيو ماكونواى وآن هاثواى تقدم فيه الأخيرة النظرية النسبية لزميلها فى حوار من المفترض أنه عفوى، والغريب انها تختم شرحها بجملة “أنت تعلم عن النسبية يا كوبر”، حسناً إن كان يعلم فماذا كان الداعى لإخباره؟! الإجابة هى أن يفهم الجمهور، وهذه إحدى المشكلات التى تقلل من نضج السيناريو، وتكررت فى مشاهد مايكل كين.
لكن ذلك يمكن التغاضى عنه تفهماً لرغبة الجهة المنتجة بجعل الفيلم فى مستوى الطالب المتوسط كى يغطى أغلب الشرائح ويعود بربح من ميزانيته الضخمة. لكن لا أجد داعى لوصفه بفيلم الأذكياء ولا أجد داعى أيضاً لما اراه من تداول البعض لمقالات باللغة الإنجليزية تتحدث عن “العلوم فى إنترستيلار”، وكأن كل تلك الثرثرة الحوارية التى أمدت زمن الفيلم إلى ثلاثة ساعات لم تكن كافية لفهم “العلوم فى إنترستيلار”!
بالطبع لم يكن كل ما قيل ثرثرة، وقد يختلف معى الكثيرون لو عبرت عن إعجابى بالمشهد الذى تتحدث فيه “براند” عن غموض ذلك الشىء المسمى بالحب ومحاولة ايجاد علاقة له مع العلم، لم أره حديثاً مباشراً أو وعظياً أو مبتور السياق، بل رأيته عذباً ومُبرراً تماماً ومتناسق مع تيمة الفيلم التى تطرح الحب كوسيلة وغاية، فضلاً عن توافقه مع شخصية “براند” التى أدى تصارع دواخلها الأنثوية الرقيقة الحالمة مع مهنتها العلمية الجافة بواقعيتها إلى استنتاجات تحاول التوفيق بين ما هو روحى وما هو مادى حتى ولو لم تصل لشىء.
رؤية فلسفية في البقاء والحب
حتى المشهد الذى يظهر به “مات ديمون” كضيف شرف ويراه البعض غير ذى معنى، دعك عما به من عيوب تصميمية وترميز بلا داعى لقصة الخطيئة الأولى، لكنى رأيته هاماً لدراما الفيلم من منظور آخر، فهو مشهد يخلص فيه نولان لتيمته الرئيسية ويطرح أحد تساؤلات الفيلم الفلسفية وهى هل ينجو الإنسان بغريزة البقاء أم بغريزة الحب؟ وقد إحتاج الفيلم بشدة لهذا الصدام الذى سيترتب عليه وبجزء كبير المعنى المنتظر من النهاية، لكن كان من الممكن تصميم ذلك المشهد بطريقة أفضل وأكثر منطقية وبدراسة أعمق لشخصية “مان” الذى لم يكن بحاجة فعلياً للتخلص من “كوبر” ورفاقه، ولو كان أخبرهم ببساطة عن حقيقة ما حدث له فى رحلته لم يكن ليتخلوا عنه على أى حال.
أراد نولان فى نهاية فيلمه الإنحياز للعاطفة بالتوجه نحو كوكب “إدموند” الذى تحبه “براند”، بعدما لم يفلح انحيازه من قبل للعقلانية حين آثر التوجه لكوكب “مان” وأتى ذلك بنتيجة مأساوية، وكلل هذا الإنحياز للعاطفة حين جعل بطله يغامر بإلقاء نفسه نحو مجهول الثقب الأسود لينقذ رحلة “براند” إلى “إدموند” التى لم تكن لتنجح بوجوده، ثم قرر نولان مكافأة بطله على ذلك السلوك العاطفى النبيل بأن جعل الثقب يأخذه إلى بقعة كونية غامضة تحتوى الأبعاد الخمس الفيزيائية التى ستمكنه من التواصل مع إبنته لإنقاذ البشرية، ستترجم الإبنة رموز المعادلة الرياضية من خلال العاطفة أيضاً.
لعل الحب يصنع المعجزات ولكنه بالتأكيد لا يغطى ثغرات الحبكات. ربما ليس على المؤلف الإلتزام بالمنطق المجرد ولكنه على الأقل ملزم بإحترام منطقه الخاص الذى مهّد له فى تأسيسه الدرامى والذى يتنافى هنا مع ما سارت عليه النهاية بحل العقدة عن طريق مدد غيبى أو Deus ex Machina، هذا الأسلوب الذى يلجأ فيه المؤلف إلى قوى غيبيه بعد عجزه عن إيجاد حلاً من داخل الدراما نفسها، أسلوب يستخف بالمتفرج هاجمه الفلاسفة ومنظرى القصص على مر العصور من أرسطو لنيتشه وحتى روبيرت مكى الذى وضعه فى إحدى وصاياه العشر للمؤلف كى يتجنب إستخدامه Thou Shalt Not Use This.
لدى تفسير إيجابى وحيد لذلك هو أن “نولان” أراد السخرية ممن اعتادوا انتقاد غياب العاطفة بأفلامه، فقرر بث جرعات مضاعفة منها فى فيلمه الأخير ليتأكد المنتقدون بأنفسهم أن العاطفة تفسد القصص الواعدة، لعل هذا تفسير شططى خاصة أننا لسنا هنا أمام مبدع يُعرف بسخريته وعبثيته كوودى آلن أو تارانتينو أو تشارى كوفمان، والأخير صنع فيلما كاملا يسخر فيه من قواعد مكى، لكن نولان من المبدعين الذين يأخذون فنهم بجدية ملحوظة. ولكن هذا عن وعيه، فماذا عن لا وعيه؟!
السؤال أيضاً هل أعطانا نولان رشوة مغرية لنوقف العمل بعقولنا مؤقتاً ونتلقى فيلمه بقلوبنا، الأمر سيختلف من متفرج لآخر لكن فى رأيى أنه فعلها وسخّر أغلب أدواته فى مهمة سداد تلك الرشوة، هناك إستغلال رائع للنظرية النسبية من أجل التخديم على لحظات مذهلة فى تأثيرها العاطفى، المشهد الذى يلتقى فيه البطل مع إبنته المسنة، يا إلهى!، لقد أخذ الأمر من ديفيد فينشر ما يقارب الثلاث ساعات كى يدغدغ مشاعرنا بموقف مشابه فى “الحالة العجيبة لبينجامين بوتن”، ولم يكلف الأمر نولان دقيقة واحدة ليصل لنفس النتيجة وبكثافة أعلى، ضف إليه المشهد الذى يطالع فيه البطل رسائل ابنيه داخل المركبة الفضائية بعد أن نضجا فى أقل من ساعة من توقيت وجوده على الكوكب الأول. مشهدان ستجد نفسك تكافح البكاء معهما.
هل تحدثت عن موسيقى “هانز زيمر”؟، إنها الحصة الأكبر من الرشوة. كلما علمت أنى مقدم على مشاهدة فيلم يضع له زيمر موسيقته تحسست عقلى، فهو بإختصار يمتلك القدرة على تخدير الحواس النقدية الدرامية للمتفرج، ما يجعل الأخير يتغاضى عن كثير من العيوب ويرى الكمال مجسداً أمامه تحت تأثير تلك الموسيقى، الأمر هنا وصل لمراحل متقدمة خاصة فى المقطوعات التى يمزج فيها بين أصوات الوتريات الديجيتال Pads مع آلة الأورجان الجنائزية، يتجلى ذلك فى مقطوعة Dust التى تصاحب مشهد ما بعد العاصفة الترابية الأولى للأب وابنته فى السيارة تحت تأثير الجاذبية، ويتجلى أيضاً فى الجزء الأول من مقطوعة S.T.A.Y التى صاحبت آخر مشهد تحدثت عنه بالفقرة السابقة، واللافت هنا أن المشهدين لم يحتويا على ما هو ملحمى بصرياً ليتناغم مع ماهو مزعج وجهور صوتياً كما جرت العادة فى هوليوود، بل كانا مشهدان في منتهى البساطة وجعلتهما الموسيقى ينطقان بما أهو أشد جلالاً من الملحمية.
إندهشت أكثر حين علمت بأن مصوّر هذا الفيلم هو نفسه مصوّر تحفة Her بالعام الماضى، فالأخير ذكره هو عبارة عن فيضان من اللوحات الجميلة، المهيبة، والروحية، أما Interstellar فلم يحتوى على لقطات ملفتة حقاً وجاء تصويره عادياً، وعن عناصر تميزه البصرية فهي ترجع فى المقام الأول إلى التصميم الإنتاجى والصور المخلّقة آلياً CGI، خاصة فى مشهد الأبعاد الخمسة.
إستطاع “ماثيو ماكونواى” إعطاء روح جديدة لشخصية البطل الهوليوودى التقليدى .. ولم يكن أداء “آن هيثواى” سيئاً لكنى شعرت أن الدور إحتاج لممثلة ذات مواصفات أخرى .. وبتلقائية دخلت “جيسيكا شاستين” التاريخ بأداءها للشخصية المحببة الأولى فى تاريخ أفلام نولان.