«3000 ليلة».. رسائل سلام إلى الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي
ليال عصفور، شابة فلسطينية متزوجة وتعمل كمعلمة، يتم القبض عليها من قبل السلطات الإسرائيلية بتهمة مساعدة شاب فلسطيني على الهرب بعد قتله أحد جنودها، يبدو أن هذه الشابة لم تمارس أي نشاط سياسي وقد ساعدت ذلك الولد ولم تكن تعرفه أو تعرف ما حدث، عليها أن تختلق حكاية ما في المحكمة وتزعم أنه هددها مثلا، لكنها ترفض الكذب، يتم إدانتها والحكم عليها بالسجن ثمان سنوات، في سجن نابلس المدني، ذلك المكان الموحش والسجانات القاسيات والسجينات العنيفات، هذا عالم ليال الجديد وعليها أن تتعايش مع كل هذه القسوة والأكثر من ذلك تكتشف أنها حامل، بعد الحكم يتركها زوجها ويهاجر إلى كندا، لم تجد ترحيبا من زميلاتها الفلسطينيات كما واجهت مشاكل عديدة من إحدى السجينات الإسرائيليات ورغم كل هذا تقرر أن تحتفظ بالجنين في هذا المناخ المظلم.
لسنا مع فيلم ثورجي أو تحريضي ضد السلطة الإسرائيلية، سنشاهد بعض مظاهر العنف والتعزير من السجانات ومشاكسات ومشاجرات بين السجينات الفلسطينيات والإسرائيليات وكل هذه المظاهر طبيعية وتحدث في جميع سجون العالم، لكن الملفت إلى الانتباه محاولة المخرجة مي المصري أن تبعث برسائل سلام ودعوة إليه من خلال تحول سلوك إحدى السجينات الإسرائيليات تجاه ليال التي أنقذتها من الموت رغم سلوك الأخرى تجاهها وتتحول العداوة إلى مودة ونرى أن السجينة الإسرائيلية ترد المعروف إلى ليال والسجينات الفلسطينيات الأخرى ولكنها لا تجاهر بفعلها ولا يبدو حدوث تحولات فكرية عميقة ولا مناصرة للقضية الفلسطينية، هذه العلاقة ربما مهدت للفيلم ليعرض في مهرجانات ويوزع بشكل جيد في أوروبا، فنحن مع فيلم يحكي معاناة سجينة تتحول إلى أم وتظل مع ابنها خلف القضبان لذلك فتعاطف أي مشاهد سيكون مع هذه الحالة في المقام الأول.
ركزت المخرجة مي المصري على بطلتها ولم تُزحم فيلمها بحكايات متعددة وحبكة بالغة التعقيد، في الزنزانة توجد سجينات فلسطينيات وتعرفنا عليهن ولم نعرف حكاياتهن، لعل المخرجة فضلت العناية بحكاية ليال وخافت أن تُربك مشاهديها أو يُساء فهمها بتفاصيل حكايات لفدائيات، البطلة ليست فدائية لكنها تستحق البطولة بعدم كذبها وكان من الممكن أن تستمع لنصائح زوجها والقول أن الشاب هددها بسكينة مثلا، لكنها رفضت وقالت الحقيقة، ولعلنا كنا نظن أننا سنرى الزوج يساند زوجته بكل الوسائل وكانت صدمتنا عنيفة، وهذا تكشف المحن معادن الناس ولعل ليال أحست بتخلي الزوج عنها وكان الجنين في بطنها مصدر قوة وأمل.
في السجن ووراء هذه القضبان لسنا في مواجهة بين الشر والخير، فالسجينات الإسرائيليات لهن كفتهن ولا يعني هذا عالم الشر ولم يحدث تعمق لهذا الطرف وكذلك الطرف الآخر أي الفلسطينيات لا يعني عالم الخير، فلا يوجد خير ولا شر مطلق، كان رُبما يتوقع البعض أن يكون هذا الفضاء مساحة وساحة للتعارف وتبادل وجهات النظر أو للعراك والعداوة والمكايدات لكن المخرجة لم تركز كثيرا على هذه النقطة وحدوث بعض المشاجرات ظل غير مسيس وهنا الجميع تنقصه المعلومات كوننا في سجن والسجانة لا تسمح بسماع الأخيار كما توجد رقابة ومنع من التواصل مع الخارج وقد تمنع الزيارات ويزج بالسجينة في حبس انفرادي ولكننا لم نشاهد كثيرا التعذيب القاسي والمرعب بحسب ما ترسمه لنا مخيلتنا العربية عندما يكون المكان سجن إسرائيلي، ظلت المناخات سوداوية وقاسية لكنها لم تصل حد الرعب المفجع.
وكان الطفل بمثابة هدية ثمينة أنقذت الفيلم من الغرق في مهب الملل وأبعدته من الوقوع في مستنقع المونودراما الكئيبة وخاصة أننا لسنا مع حكايات متشعبة، كما أن الطفل حمل الكثير من الدلالات وأضفى الكثير من البهجة والفرح.
حاولت المخرجة مي المصري البعد عن الإكليشهات المستهلكة ولم يكن الفيلم محشوا بالدبكات والمواويل والشعارات الوطنية، كما أنها لم تركض وراء المبالغات ولم تحاكم شخصياتها أو تنصر طرفا ضد الآخر، الشخصيات تقريبا جميعها إنسانية فمثلا تلك السجينة الفلسطينية التي تتعاون مع السجانة وتنقل بعض أخبار زميلاتها لها مبرارتها فهي أم وضعفت ولم يتم محاكمتها كخائنة أو عميلة لا ندري لعل المخرجة تركت محاكمتها للمتفرج، ربما تلقي المتفرج لهذا الفيلم سيختلف، فالمتفرج المتحمس للشعارات قد لا يعجبه ذلك وستتفاوات مستويات الفهم والتذوق، ولعل المخرجة حسبت حساباتها وحاولت أن يكون الفيلم مرحبا به في قاعات العرض الأوروبية، ولهذا وزعت اللكمات متساوية خلال الشجارات وهي أقرب لمشاجرات وشتائم حريمية وحتى موت إحدى السجينات كانت الرصاصة كأنها طائشة وغير مقصودة.
من الإيجابيات المهمة تلك الاستخدامات المذهلة لجدران السجن وتعدد الرموز والدلالات التي تم تمريرها ببساطة وعفوية مثلا تحول الجدار إلى شاشة عرض تحكي حكاية طفولية لتسلية الطفل، ثم كان بمثابة سبورة يتعلم من خلالها الطفل معنى بيت وعصفور ومطر وقمر ورغم أن أداة الرسم تشبه الفحم إلا أنها تضعنا نحن أيضا لتنشيط مخيلتنا ورؤية هذه العناصر والخروج من هذه العتمة، كما نرى في مشهد تلك الفتاة تتسلق الجدار لتشير إلى شاب سجين في الجهة الأخرى وهنا يعود الضحك وبعض الفرح وكذلك الثقب الصغير كممر للرسائل وهكذا علينا أن نحسُّ بهذه المخلوقات الإنسانية تحلم بالحب والفرح.
هناك أدوات بسيطة ولقطات ذات جماليات سينمائية مثلا كيس البلاستيك يطير في باحة السجن، تلك اللعبة لمجسم العصفور تكون في يد الطفل ثم نشاهد عصفورا جميلا يتحرك، سقي السجينات لشجيرات صغيرة، أعواد الكبريت بدلا من الشمع.. مثل هذا التعامل البسيط مع بعض الأشياء منحت الفيلم روحا سينمائية حررته قليلا ليتنفسّ من قبضة الحكاية.
يوجد الكثير من الألم والمعاناة في غياهيب السجن ولكن كان السجن حقلا مهما في نضوج شخصية البطلة حيث دخلته ظلما وبالخطأ وكونها قادمة من مدرسة إبتدائية فهي معلمة وليست محاربة ومرت على ليال الكثير من الليالي القاسية وهنا في السجن يشرق فجر حب جديد، فالعلاقة تتطور بين ليال وأيمن وهذه العلاقة تؤكد مرة أخرى على إنسانية الشخصيات.