«أنا دانيال بليك».. بوابة السينما إلي عالم المهمشين
ـ أمنية عادل
من أبرز مميزات السينما الحديثة هو تعاطيها مع حياة الإنسان العادي، إنسان الشارع الذي يشبهني ويشبهك، كل منا له حياته وأزماته ومخاوفه مما هو قادم ويقبل عليه، لاسيما في ظل المجتمع المادي الذي يحيط بنا ويتحتم علينا الصراع لاستمرار الحياة، ولكن دائما المجهول يختلف عما نرغب به، وهو الحال مع دانيال بليك، هذا الرجل البسيط، وهي كلمة ليست في الفيلم صفة اعتيادية وإنما حقيقية، حيث أنه رجل بسيط في حياته وعمله ومهاراته مقارنة بسوق العمل الباحث عن ما هو أكثر من مجرد المهارة الإنسانية.
«أنا دانيال بليك ـ I, Daniel Blake»، فيلم بريطاني وجد لنفسه مساحة عالمية، سيما بعد حصوله على السعفة الذهبية بمهرجان كان في دورته الـ 69، كما أن اسم المخرج البريطاني المخضرم كين لوتش أعطي للفيلم قيمة مضافة ورؤية حاضرة عن ملامح شخصية دانيال بليك الذي يشبه أبطال أعمال لوتش في صموده لمواجهة صعوبات الحياة والعالم المعاصر الذي يطحن الطبقة المتوسطة والفقيرة ويلقي بها عرض الحائط غير آبه بمعاناتها ومتطلباتها للعيش في عالم كريم يحترم الإنسان.
عالم المهمشين
في ما يزيد عن الساعة ونصف يناقش لوتش بحساسيته الخاصة أزمة رجل تجاوز الستين من عمره، ويمتهن النجارة ولا يعرف شئ آخر غيرها، يعيش بمدينة بريطانية صغيرة، وتتغير حياته بعد إصابته بأزمة قلبية توقفه عن ممارسة عمله وهو ما يضطره إلى اللجوء للحصول على حماية اجتماعية لمواجهة البطالة التي باتت تطارده، وتبدأ رحلته مع البيروقراطية ومادية النظام السياسي والاجتماعي.
إلى جانب دانيال، تجمعه الظروف بعائلة صغيرة لأم عزباء تعاني مع طفليها، ويكون دانيال معهم رابطا قويا، فكلاهما يعاني من صعوبات الحياة وتعسف الجهات المعنية بالرعاية، ويحاول دانيال أن يصلح مما يدور حوله قدر المستطاع وذلك يوقعه في المشاكل، لكنه يعبر عن حاله وحال الكثيرين، وهو ما يجعله روبن هود معاصر لهؤلاء المستضعفين الذين يجدوا في التصفيق له تعبير عن دعمه ومساندته ولو بالقليل.
عبث الأقدار
في حالة عبثية واضحة وسط روتين حكومي نقضى مع دانيال مدة لا بأس بها يشعر معها المشاهد بثقل مهمة دانيال المطالب بمواكبة العصر ومتطلباته للحصول على الحماية الاجتماعية، وتتكرر رحلته لمكاتب الموظفيين أصحاب الوجوه المتجمدة لمعاونته ولكن دون جدوي، ويظل يدور في دائرة عبثية مفرغة من أي حل ممكن، وهو ما يثقل عليه حتى لحظة الإنفراجة الأخيرة.
يتجلى معنى العبثية في نهاية الفيلم والتي تنتهى معها حياة دانيال، فإذا به يلقى مصرعه وهو على أعتاب تحقيق الحلم الذي سعى خلفه لفترة طويلة، ويموت دون أن يحصل على حقه في الحياة، مما يضع المشاهد في حيرة وتساؤل، هل لو سارعت الجهات المعنية بإعطاء دانيال معاشه كان سيحيى؟!..
قسوة الحياة
تنتهى معاناة دانيال بمأساة لا تقل قسوة عن ما عاناه في حياته، ليعكس لوتش خلاصة حياة هؤلاء المهمشين المأساوية، والتي يصورها بواقعية ويقدمها بميزان حساس للمشاهد يصدمه بجفاف بلاد الضباب، ولا يرغب لوتش وكاتب السيناريو الذي شاركه عدد من أعماله المميزة مؤخرا، بول لافيرتي، أن ينشد حياة يوتوبيا أفلاطون إنما يطالب بعالم أفضل لهؤلاء، عالم يأمن للفرد حياة تحترم إنسانيته.
ويكمل فيلم «أنا دانيال بليك» مسيرة لوتش الاشتراكية وسخطه على المجتمع الرأسمالي الذي يمنح القليلين في حين يترك الكثيرين دون شئ يذكر، وإلى جوار السيناريو المحكم تعتبر موسيقي المخضرم جورج فينتون أحد عناصر ختام الفيلم، فلا تظهر كثيرا ويكتفي بحضورها في الختام، وكأن حياته فصل من مسرحية ممتدة لا تنتهى يكملها غيره من البشر المستهلكين في هذا العالم القاسي.
من أفضل عناصر العمل صورة المصور الإيرلندي روبي ريان والتي تابعت مسار الأحداث ورحلة بليك حتى نهايتها، وأعطه حقه بتوضيح سماته الطيبة، وخلقت تعاطف متراكم مع الأحداث، كما نجح مونتاج المونتير جوناثان موريس، الذي رافق لوتش في عدد من أفلامه، حيث اعتمد نمط مونتاج تقليدي ليعكس بساطة حياة دانيال وتقليديته المفرطة التي تشابه حياة الكثيرين من مشاهدي الفيلم، مع هذا جاء الإيقاع متوازن لاسيما أن الفيلم لم يتعدى الساعتين.
بساطة محنكة
يندرج الفيلم في خانة صناعة السهل الممتنع وهو ما ينطبق على عنصر التمثيل، فالبساطة خيمت على الأداء، كما أن القصة تعتبر هي البطل الحقيقي، ومع هذا فإن توظيف البريطاني ديف جونس هذا الكوميديان الذي يقدم الكوميديا في عروضه وحضوره في أول أعماله السينمائية بدور شديد القتامة غارق في المأساوية، تعتبر مغامرة ولكنها كانت محسوبة كما توضح النتيجة، حيث قدم جونس بأداء بسيط شخصية دانيال ومعاناته وتقلباته ومثابرته لمواجهة صعوبات الحياة وسبل سخطه على الأوضاع وتحايله عليها بمساندة الآخرين، فيما قدمت الحاصلة على جائزة السينما المستقلة البريطانية لأفضل ممثلة واعدة هايلي سكويريز أداء اعتمد على البساطة والحرفية في إدارة الانفعالات، وتألقت في دورها خاصة مشهد بنك الطعام والسرقة من المتجر.
تعامل لوتش مع عنصر التمثيل كغيره من عناصر الفيلم، حيث لم يفرط في استخدام أي منهم وكان لكل عنصر مكانه الخاص وهو ما ساعد في صناعة عمل محكم وعبر لوتش عن خلاصة تجربته به.
يمر مشاهد فيلم «أنا دانيا بليك» بمراحل ثلاثة يبدأها مع التساؤل من هذا الرجل المهمش الذي نشاهد قصته، ومن ثم ندخل معه في عالمه البسيط ونتعاطف مع خطواته المليئة بخيبات الأمل حتى ننتهى مع نهايته المأساوية، راصدين حياة الكثيرين منا، ممن يعانون ويواجهون الصعوبات في الحياة، وتنتهى بهم الحياة كما بدأت على الهامش دون أن يذكرهم أحد، فكلنا دانيال بليك.