خيرية البشلاوي تكتب: «دنكرك».. حين يكون الفناء حتمية مؤكدة يصبح الهروب بطولة
ـ خيرية البشلاوي
وأنا أتابع فيلم تاريخ حرب علي غرار “دنكرك” المعروض في صالات السينما حالياً للمخرج الأمريكي ـ البريطاني كريستوفر جيمس نولان تمر علي الخاطر لوهلة مقارنة وأردد المثل الشعبي: “ايش جابك يا صعلوك بين الملوك”، فأين نحن من هذا المستوي الفني الجبار والتفكير المبتكر لموضوع سبق عرضه مرات عديدة “الحرب العالمية الثانية” بينما أفلامنا خايبة وتافهة فيما يخص حربنا العظيمة أكتوبر.. ضد عدونا الأزلي والمقيم إسرائيل.
لن أذكر بطبيعة الحال أسماء تلك الأفلام. فالقاريء يعرفها ومن ثم لن استرسل في هذا الخاطر الأليم. ولكن أود أن أذكر بأن معارك المصريين وانتصارهم عام 1973 جدير بعمل سينمائي تاريخي يليق بما أنجزه أبناء القوات المسلحة في حروبهم ليس فقط ضد الكيان الصهيوني، وإنما ضد الكيانات الإرهابية المدعومة بقوي صهيونية ومرتبطة بما جري ويجري في خضم صراعات مصر مع قوي الشر القديمة والحديثة.
دنكرك 2017
ليست هذه هي المرة الأولي التي تقوم فيها السينما الغربية “الأمريكية والأوروبية” بعمل فيلم عن واحدة من وقائع الحرب العالمية الثانية جرت بعد نشوب الحرب بفترة قليلة وتحديداً في مايو 1940، فقد سبق للسينما أن قدمت تحت نفس العنوان فيلماً عام 1958 للمخرج ليزلي نورمان وبطولة جو مايلز وريتشارد أتبزو وبرنارد لي فقد قدمت صناعات السينما الوطنية في بلدان عديدة خاصة من الدول التي شاركت في الحرب أعمالاً تتناول الحرب العالمية الثانية، وقدمت أمريكا أفلاماً من الانتاج الضخم تستعرض إسهاماتها في الحرب وتضع صور أبطالها داخل إطارات ذهبية تمجد مؤسستها العسكرية وتلوح بقوتها الجبارة وبأنها باتت القوي العظمي الجديدة فوق هذا الكوكب خصوصاً بعد تفجيرها القنبلة النووية فوق هيروشيما ونجازاكي.
نولان وطبعة جديدة
المخرج. المؤلف. والمنتج. والممثل كريستوفر نولان صانع هذا الفيلم يضعنا أمام “وثيقة” بصرية جديدة تؤكد الإمكانيات الخلاقة والمبتكرة لفنان الفيلم ليس فقط في مجال الإمتاع الفني الروائي بل في رحاب الأفكار المعقدة الصعبة التي تضاهي العالم التكنولوجي والعلمي المتطور، فهو لا يتوقف عن إثارة الدهشة وتجاوز المألوف حتي بالنسبة للموضوعات التي سبق طرحها ولا يتوقف عن قبول تحديات العلم وإمكانياته البعيدة وقد أثبت ذلك منذ فيلمه الأول “ميمنتو” “Memento” وحتي ثلاثية “الفارس الأسود” “دارك نايت” و”إنسبشن” “Inception”.
فيلم “دنكرك” يتناول عملية “الإجلاء” الحتمي السريع لما يقرب من 400 ألف جندي بريطاني مع جنود الحلفاء من فرنسا وبلجيكاو ذلك بعد أن حاصرتهم القوات النازية فوق مساحة محدودة علي شواطيء فرنسا أمام مدينة “دنكرك” الفرنسية في مايو 1940م الأمر الذي يجعل من عملية إجلائهم معركة حياة أو موت وحيث لا توجد وسيلة لنقلهم غير البحرو السفن الحربية شحيحة وطائرات العدو تحوم في السماء وتمطر الموت علي حشود الجنود المرصوصين فوق رمال الشواطيء الأمر الذي جعل المسؤولين في بريطانيا يناشدون الأهالي للاسهام بقواربهم وسفنهم الخاصة الصغيرة للمشاركة في نقل الجنود.. الترجمة البصرية التي قدمها المخرج في مشاهد منظرية مدهشة تستعصي علي الوصف النظري.
الفيلم علي غير المألوف في أعمال “نولان” لا يتكيء علي خيال علمي وإنما يستوحي حادثة تاريخية واقعية ومع ذلك لا يقدم عملاً عسكرياً تقليدياً ولا بناء كلاسيكياً مألوفاً لنوعية “فيلم الحرب” وإنما يختار عدة زوايا إنسانية خالصة وتفاصيل صغيرة لحكايات مؤثرة يصنعها جنود في عمر البراعم. تعيد تعريف “البطولة” بمفردات مختلفة حيث التشبث بالحياة والإصرار علي تحدي الموت المحدق والهروب الضيق في خضم الصعوبات يعد في حد ذاته بطولة. فحين يكون الفناء حتمية مؤكدة والهلاك من البحر والأرض والجو علي أيدي قوي جهنمية زاحفة يصبح الهروب وعدم تمكين العدو بطولة. اللافت أن العدو لا نراه ولكنه حاضر بقوة من خلال طيرانه في السماء وقنابله التي تتفجر في عمق الرمال.
كريستوفر نولان مخرج ومؤلف هذا الفيلم يصور ملحمة إنسانية بعناصر بصرية سمعية عالية الإتقان الأمر الذي يجعل الفرجة متعة حقيقية واكتشافا للطاقات الفنية التعبيرية تعلي من قيمة “الوسيط” الذي لم نعد نجد الابداعات صناعة اللغة النظرية النقدية التي توفيه حقه.
نتأمل هذه المشاهد الطبيعية بألوانها الشاحبة الخالية من البهجة الموحية بأزمة وجودية حقيقية لعشرات الآلاف المحصورين أمام بحر تعلوه الطائرات وسفن آيلة للغرق وغواصات نصف غارقة وجنود أصابهم الهلع وتملكتهم الرعشة وآخرون يأملون في تحقيق أي بطولة يمكن أن ترد إليهم اعتبارهم وجثث لم يتم دفنها وجرحي يحملهم زملاؤهم في محاولة يائسة للوصول إلي سفينة عابرة كي تنقلهم إلي حيث يداوون وكلها تفاصيل وسط مجاميع هائلة لجنود غارقين في بحر متلاطم من مشاعر الخوف من فناء محدق بهم وأمل شاحب في امكانية النجاة وإرادة خائرة ومحاولات يائسة لاستنهاضها وموسيقي في الخلفية منذرة ومقبضة ومبهجة أخيراً عندما يلوح أمل النجاة مع قدوم أسطول من السفن الصغيرة لأهالي توافدوا للمشاركة في الإنقاذ.
في آخر الفيلم يهنيء أحد المواطنين الجندي العائد من “دنكرك” فتكون إجابته “لم أفعل سوي أنني بقيت علي قيد الحياة” فيرد المواطن: “هذا يكفي”.
كريستوفر نولان لم يقدم مواجهات عسكرية وإنما فقط معركة وجود ودخول إلي ميدان يعيد تفسير واحدة من وقائع الحرب التي ينتصر فيها الإنسان المقاتل علي الموت. أنه أحد ميادين “الإبداع” التي يخوضها المرء في معركة الحياة والوجود.
ففي فيلمه “إنسبشن” “Inception” أدخلنا ميدان العقل إلي داخل الجمجمة لزرع أفكار وتوجيه إرادة إنسان في واحدة من معارك الجشع المادي والتنافس البشري والحنين إلي حيث توجد المشاعر الإنسانية فمع توافر الانتصارات العلمية تبلغ سطوة “العالم” مدي واسعاً ويصبح ماضي البشرية وصراعاتها الكبري مرفأ للأفكار وإعادة التأمل ومع إيمان المخرج بهذا التطور العلمي الكبير وتوظيفه في كل أفلامه إلا أنه يصر في هذا الفيلم علي الابتعاد عن صناعة الصور الرقمية التي يوفرها الكمبيوتر ويلجأ إلي الأسلحة الحقيقية التي استخدمها “الألمان” وإلي المراكب والسفن التي كانت. حتي لو كلفه ذلك ميزانية إضافية و من الواضح أن القيمة الإنتاجية لأعمال علي هذه الشاكلة تستدعي عشرات الآلاف من “الكومبارس” ومثلها من الملابس والاكسسوارات.. إلـخ ورغم ذلك فهي ليست أعمالاً خاسرة وإنما الأرقام الأولي لشباك التذاكر تؤكد نجاح “دنكرك” وكذلك تؤكد “المراجعات” “Reviews” النقدية أن الفيلم أهم أعمال المخرج وأحسن أفلام هذا الموسم حتي الآن وأنه العمل الجدير بالترشيح للأوسكار.
إنتصار غير تقليدي
عملية “الإجلاء” العظيم التي أعاد بعثها فيلم “دنكرك 2017” اعتبرها البريطانيون ضمن بشاير الإنتصار في تلك الحرب فقد تمكنت الجهود التي شارك فيها مواطنون بريطانيون من عودة ثلاثمائة ألف “300 ألف” جندي وكان المطلوب نجاة ثلاثين ألفا إن أمكن حتي لا يصاب الحلفاء بهزيمة ساحقة مع بداية الحرب. ويعتبر هذا الانجاز واحدة من رسائل الفيلم من مخرج يحمل في عروقه الدماء الزرقاء.
ثلاثة أزمنة تتداخل
سيناريو الفيلم الذي كتبه المخرج نفسه يتضمن ثلاثة عناوين تشير إلي ثلاثة أزمنة مختلفة وتتضمن أحداثاً تلتقي في نهاية الحدث الرئيسي وتدور في مواقع علي البر والبحر وفي الجو وكأنها ثلاثة فصول لهذه الملحمة.
الفصل الأول: “براً” يمتد لأسبوع واحد أمام شواطيء المدينة الفرنسية حيث ترسو السفن المستعدة لإجلاء الجنود والتي تمنع المياه الضحلة قربها من رمال الشاطيء وحيث عشرات الآلاف من الجنود بقيادة القائد البريطاني بولتون “كنيث براناه” يتطلعون إلي العودة.
والفصل الثاني: في البحر ويمتد ليوم واحد فقط وتدور وقائعه داخل مركب صغير يمتلكه المواطن البريطاني “مارك ريلانس” أحد الذين استجابوا لنداء الحكومة ويرافقه ابنه الصغير وصديقه الذي يموت في حكاية حزينة ضمن الحكايات العديدة التي يضمها الفيلم والتي تشير إلي إسهام “السفن الصغيرة” التي شاركت بدور وطني جميل أدمع عيون القائد البريطاني حيث كانت طلتهم علي سطح مياه بحر المانش أو “القنال الإنجليزي” أشبه بـ”الوطن” الذي تحرك لانقاذ أبنائه.
ثم الفصل الثالث: يمتد لساعة واحدة في الجو حيث تحوم طيارة أحد المقاتلين داخل كابينة القيادة بعد أن أصبح يعاني من نقص الوقود ومن اصابة الخزان والتهديد بالهلاك أو الأسر علي أيدي النازي.
الفصول الثلاثة ـ البر والبحر والجو ـ تتداخل وتختلط ولكنها تتكامل لترسم ملحمة “الإجلاء””” العسيرة والوصول إلي بر النجاة بعد أن تتمكن سفن الأسطول البريطاني من تضليل الألمان ومن ثم الوصول بالنازحين إلي الشاطيء الآخر ويعيد من الجنود ما لم يكن يحلم به “تشرشل” الذي كان قد عين حديثاً رئيساً لوزراء بريطانيا.
التفاصيل التي تبني وتصنع نسيج هذا العمل الجميل وتشكل خيوطاً لحكايات فردية وبطولات إنسانية لشباب وممثلين يلعبون أدوارهم الأولي حيث وجد فيهم المخرج صاحب الرؤية والخيال الثري وجوهاً طازجة بقسمات قريبة جداً من يقدمون طبعات جديدة للبطولة بعيداً عن اسماء النجوم الكبيرة في الأفلام الحربية ذات الانتاج الضحم التي اعتدنا علي تجسيدها لشخصيات الأبطال العسكريين في أفلام من نوعية “أطول يوم” و”باتون” و”الجندي رايان”..