توأمة فنية.. نور الشريف في سينما عاطف الطيب
«سينماتوغراف» ـ رشا حسني
بدأت علاقة النجم نور الشريف بالمخرج العبقري الراحل عاطف الطيب بمفارقة، جعلت عرض ثاني أعمالهما سوياً وهو الفيلم الأهم في مسيرة كل من اشترك به، بل هو من أهم 10 أفلام في تاريخ السينما المصرية دائماً وأبداً وعلي الإطلاق “سواق الأتوبيس”، يسبق عرض العمل الأول لهما معاً والعمل الأول للمخرج عاطف الطيب وهو فيلم “الغيرة القاتلة”. ثم استمرت العلاقة بينها حتي الوفاة المفاجئة والصادمة للمخرج عاطف الطيب عام 1995 بعد التعاون الأخير بينهما فيلم “ليلة ساخنة”.
لم تكن أبداً العلاقة بين نور الشريف وعاطف الطيب علاقة الفنان أو الممثل بالمخرج بما يمكن أن تتضمنه تلك العلاقة من روتينية في التعامل. فما أنتجته تلك العلاقة وذلك التعامل من إبداع وفن يصل كثير منه إلي حد “الإستثنائي” لا ينم أبداً علي أي نوع من أنواع الروتينية أو الاعتيادية في التعامل حتي ولو بالقدر البسيط.
كون نور الشريف مع عاطف الطيب توأمة فنية وإبداعية من نوع خاص كان قوامها الأساسي ليس فقط التفاهم والتناغم الفكري والثقافي ولكن الأهم هو الهم الواحد. فقد جمعهما سوياً نفس الهم الإنساني الذي كان أقوي دافع ومحفز إبداعي لإنتاج أعمال فنية خالدة خلود السينما كان أهمها علي الإطلاق “سواق الأتوبيس “.
نال نور الشريف نصيب الأسد من مجمل أعمال الراحل عاطف الطيب. فمن بين 21 فيلماً فقط تركها عاطف الطيب كان لنور الشريف منها 9 أعمال جاءت كالتالي:
1-الغيرة القاتلة 1982
2-سواق الأتوبيس 1983
3-الزمار 1985
4-ضربة معلم 1987
5-كتيبة الإعدام 1989
6-قلب الليل 1989
7-ناجي العلي 1992
8-دماء على الأسفلت 1992
9-ليلة ساخنة 1996
بداية غير مبشرة
جاءت بداية الثنائي غير مبشرة علي الإطلاق لم يشفع لها شئ سوي أنها عُرضت بعد عرض عملهما الأهم والأكمل “سواق الأتوبيس”، فالفيلم ملئ بالنواقص والهفوات الفنية خاصة علي صعيد السيناريو. أراد كل من عاطف الطيب والسيناريست وصفي درويش تقديم معالجة عصرية لعطيل شكسبير ولكنها في حقيقة الأمر خرجت معالجة ساذجة لعطيل شكسبير.
سيناريو الفيلم يحفل بأسئلة كثيرة لا إجابات لها أو تأتي أحياناً الإجابات في غير مواقعها وهو أمر غير محمود علي الإطلاق، فلا يُظهر لنا السيناريو بشكل واضح طبيعة عمل نور الشريف ولماذا ترك عمله وما هي طبيعة المناقصة أو المشروع الذي أقدم عليه بل والأهم وهو ما يُعد في صُلب المعالجة الدرامية.. ما أسباب وخلفيات هذا الكره البين من مخلص يحي الفخراني لرفيق طفولته وصباه وشبابه نور الشريف في الفيلم رغم ما جمعهما من حب وصداقة منذ الطفولة وحتى الشباب وهو السبب الأدعي لتقويض السيناريو بأكمله حيث تقوم معالجة السيناريست وصفي درويش علي الخيانة ولكنها هنا ليست خيانة ديدمونة لعطيل ولكنها خيانة الصديق لصديقه في حين تأتي محاولة إقناع الفخراني بخيانة دينا التي قامت بدورها نورا لنور الشريف علي هامش أحداث الفيلم فقط لكي تتم من خلال مشهد اكتشاف نور الشريف لزوجته حقيقة صديقه ورفيق عمره مخلص في مشهد يشوبه الكثير من المباشرة وغير المعقولية ناهيك عن نهايته حين سمح نور الشريف لصديقه بأن يمضي في طريقه وكأن شيئاً لم يكن.
مساحة دور نور الشريف بالفيلم كبيرة فهو بطل العمل لكن هذا الكبر لم يعط لموهبة نور الشريف جديداً ولم يزد علي أدائه كثيراً نظراً لتقليدية بناء الكثير من مشاهد الفيلم مما لم يعط له مساحات تمثيلية واسعة تسمح لموهبته التمثيلية بالانطلاق.
يعد فيلم الغيرة القاتلة هو أكثر أفلام المخرج الراحل عاطف الطيب بُعداً عن مشروعه وهمه الذي جمعه بالنجم نور الشريف، مشوار الحلم بحياة أفضل بمجتمع أفضل بحياة أفضل لبسطاء هذا الوطن.. الحلم بوطن خال من الفساد من القهر من الذل من الظلم. ولكن سرعان ما يُعيد عاطف الطيب توجيه بوصلته تجاه همه وحلمه ومشروعه ليلتقي الثنائي ثانية في رائعتهما “سواق الأتوبيس”.
البداية الحقيقية
يعتبر فيلم “سواق الأتوبيس” كما ذكرت سابقاً هو الفيلم الأهم في تاريخ كل من شاركوا فيه ولكن ليس هذا وفقط ولكنه يعتبر أيضاً الفيلم الحدث، حدث لأنه أعلن ميلاد مخرج سيغير من شكل السينما المصرية وتوجهاتها فيما بعد. وأعلن أيضاً ميلاد سينما جديدة ليست الواقعية فلقد ظهرت الواقعية من قبل سواق الأتوبيس من خلال فيلم ضربة شمس للمخرج محمد خان ولكنها سينما عاطف الطيب ويمكن أن نطلق عليها من الأسماء ما نشاء وهي سينما قادرة عن التعبير عن كل ما توصف به من ألقاب أو صفات.
أعاد “سواق الأتوبيس” الألق لمخرجه الذي لم تكن تجربته الأولي مبشرة وأضاف كثيراً من الألق علي النجم نور الشريف من خلال أفضل أداء سينمائي له علي مدار مشواره الفني والذي نال عنه جائزة التمثيل بمهرجان نيودلهي السينمائي الدولي ليكون أول ممثل مصري ينال جائزة دولية.
أتاح سيناريو بشير الديك في أعظم ما كتب وبتوجيه مرهف ودقيق من عاطف الطيب للفنان نور الشريف تقديم أداء تمثيلي به خلاصة مفهوم التعايش بل والتقمص التام للشخصية ليتنحى نور الشريف جانباً تماماً ويظل فقط حسن سلطان فتختفي الحدود بين الممثل والشخصية وتبقي فقط الشخصية التي يؤديها الممثل.
فمن المعتاد أن لكل ممثل بعض من لزماته الأدائية والتي يقع كثير من الممثلين في خطأ الاستسلام لها سواء كانت تلائم ما يقدمونه أو لا ولا يستثنى من هذه سوي عدد قليل جداً من الممثلين والممثلات ربما يسهُل عده علي أصابع اليد الواحدة. وقد فعل الفنان نور الشريف نفسه هذا في بعض أفلامه ولكن من خلال “سواق الأتوبيس” لا يُشبه أداء نور الشريف أداءه في أي من أدواره الأخري ولا حتي من خلال لزمة بسيطة فكل إيماءة وكل لفتة محسوبة بدقة وعناية شديدتين.
استوعب نور الشريف حسن سلطان داخله بل سكنه تماما فاتسق أداؤه مع كل مرحلة لبطل العمل من خلال رحلته لمحاولة إنقاذ ورشة أبيه من الضياع من لهث ثم بطء ثم بارقة أمل ثم وفاة الأب ثم مرحلة المواجهة والثورة علي النفس أولا ثم اتخاذ قرار بعدم الصمت والاكتفاء بالمشاهدة مع صرخة النهاية “يا ولاد الكلب”. ففي كل هذه المراحل يعبر نور الشريف عن أدق تفاصيل حسن وما يشعر به حسن وما يدور بداخله من خلال الأداء المناسب لكل موقف وجملة وتفصيلة. في مشهده مع ميرفت أمين وهي تحاول تهديده بالطلاق إذا ما باع التاكسي ورد فعل حسن عليها من خلال نظرة بسيطة عابرة لا تتعد ثوان تسبق كلمة الطلاق أو في مشهده مع والده الفنان الراحل عماد حمدي داخل الورشة وهو يرثيها ويرثي ماضيه من خلالها وكيفية استقباله لكلمات والده التي تنطلق لصدره في وقع أقوي من وقع طلقات وقذائف العدو الذي واجهه من خلال مشاركته بحرب أكتوبر. تلك الغصة التي غطت ملامحه تارة مع محاولة فاشلة لتنحيتها جانباً لإعطاء والده أملاً زائفاً بأنه لن يفقد الورشة بل وأنه سيُعيد أمجاده ثانية من خلال ورشته وأن كل شئ سيعود كما كان وأفضل، ثم مشهده تحت سفح الأهرامات ومقابلته لشلة القروانة والتي كان صوته فيها يحمل رثاء شديد الوطأة علي ما قدموه من تضحيات وما لاقوه من إنكار ومجافاة بل وقهر في مجتمع الانفتاح والاستهلاك.
الزمار و ضربة معلم
تناول الطيب ما يؤرقه من ظلم وقهر للأفكار قبل البشر من خلال الزمار ولكن في سياق شاعري بعض الشئ ساهم في فرض هذا الطابع الشاعري علي الفيلم كلمات عبد الرحيم منصور وألحان بليغ حمدي.
الفيلم عن مسرحية هبوط أورفيوس للكاتب تينسي ويليامز وسيناريو رفيق الصبان وعبد الرحيم منصور. يتناول الفيلم قصة الشاب الطالب بكلية الهندسة والذي يقدم مسرحية تجعله مُضطهداً ومُطارداً من قبل السلطة. الفيلم هو محاولة أخري من عاطف الطيب ونور الشريف لفضح الفساد أولاً ثم الثورة عليه ولكن لم يأخذ هذا الفيلم ربما هو وفيلم “ضربة معلم” التعاون الثاني لعاطف الطيب وبشير الديك بعد “سواق الأتوبيس” ما أخذه باقي أعمال الثلاثي الطيب والشريف والديك نظراً لسذاجة نهايات الزمار وضربة معلم فيموت بطل الزمار المناهض للفساد والظلم كما لو كان الفيلم يعلن بما لا يدع مجالاً للشك بأن الموت هو نهاية الشرفاء ليظل الفاسدون علي قيد الحياة ينعمون بملذاتها في حين يستلهم الطيب روح سواق الأتوبيس في ضربة معلم ولكنها الروح وفقط.
في حين تأتي نهاية ضربة معلم بالعديد من الثغرات البديهية التي لا تغتفر لكاتب متمكن مثل بشير الديك ولكن ما شفع له هو تدفق أحداث الفيلم وحسن بناء مشاهده ومواقفه وردود أفعال شخصياته وحُسن بنائها أيضاً طوال أحداث الفيلم.
بات من المُعتاد والبديهي أن يختلف أداء نور الشريف مع عاطف الطيب، فالطيب يستطيع أن يُخرج أفضل ما داخل نور الشريف إلي جانب موهبته الفريدة في إدارة ممثليه ولكن في هذين الفيلمين تحديداً أدي نور الشريف أداء جيداً جداً ولكنه لم يصل أبداً لألق “سواق الأتوبيس”.
كتيبة الإعدام
الفيلم قائم بالأساس علي التيمة الأثيرة لأغلب أفلام السينما وهي تيمة الإنتقام ولكن أراد لها عاطف الطيب أن تأخذ منحي قوميا وطنيا قام بصياغته درامياً المؤلف التلفزيوني الأشهر أسامة أنور عكاشة في أولي تجاربه السينمائية والذي وضح جلياً إتفاق رؤاه السياسية والإجتماعية مع رؤي وأفكار عاطف الطيب. ولكن وبالرغم من هذا الاتفاق فلم نخرج من الفيلم سوي بهذا الاتفاق مع التحفظ علي كثير مما جاء به، فسيناريو الفيلم مكتظ بالكثير من الثغرات الدرامية بداية من بداية الفيلم واعتماد الفيلم علي سرقة مرتبات الجيش الثالث أثناء حصار السويس فأي جيش هذا الذي سيقبض مرتباته في أرض تعتبر ساحة معارك مُحتملة مروراً بحلول ساذجة للعديد من المواقف الدرامية مثلاً كالطريقة التي وجد بها نور الشريف زوجته وابنه من خلال مجلة ملقاة علي منضدة بشقة معالي زايد ويا لها من مصادفة.
من الواضح أن اتفاق الرؤى بين الطيب وعكاشة هو فقط الدافع الوحيد لتقديم هذا الفيلم وبالرغم مما يطرحه الفيلم من هموم الطيب كمقاومة الفساد وعدم الاستسلام له ومناهضته، بل ووصل به الأمر في هذا الفيلم لتحقيق العدل والانتقام دون انتظار حكم القضاء أو العدالة إلا أن كل هذا لم يكن مغلفاً بعناصر درامية قوية وكافية لصنع عمل سينمائي جيد ومتماسك كعادة أعمال الطيب ولكنه كان محاولة أخري من محاولات الطيب كصرخة في وجه الفساد والانفتاح والخيانة.
أدي نور الشريف في كتيبة الإعدام أداء في حدود دوره المكتوب الذي لا يحتمل الكثير من الإبداع والتوهج، فالشخصية أحادية الأبعاد واضحة ملامحها منذ المشهد الأول وحتي المشهد الأخير.
اللقاء الفلسفي
تأخذ العلاقة الفنية بين عاطف الطيب ونور الشريف منحي مختلفا تماماً من خلال تجربة فيلم “قلب الليل” المأخوذ عن رواية لأديب نوبل نجيب محفوظ تحمل نفس الاسم قام بصياغتها سينمائياً الراحل محسن زايد والمعروف عنه ميوله لتقديم الأعمال ذات الأبعاد الميتافيزيقية والبحث الدائم عن أصل الأشياء ومآلها.
استطاع نور الشريف من خلال قلب الليل وبمنتهي الحرفية أن يتنقل بين مراحل جعفر الراوي منذ الصبا والشباب والعيش في كنف الجد الراوي الكبير ثم مرحلة مروانة وصدامه مع جده ثم طرده ليتصعلك مع صديقه شكرون ولكنه لازال محتفظاً بكثير من أصله وأصولياته التي تجعل سيدة المجتمع هدي صديق تعجب به وتتزوجه.
تميز نور الشريف بشكل واضح في تلك المشاهد التي يعبر فيها عن ذلك المثقف المدعي الذي لا يعلم أنه مدعي بل هو مقتنع تماماً بما يقول ويؤلف وخاصة في مشهد النهاية وهو يسير هاذياً في الشوارع وقد كساه الشيب ولكنه يظل مردداً نظرياته الواهية وكلامه الذي ربما لا يفهمه هو.
اختلف جعفر الراوي روائيا عنه سينمائياً فلقد أظهرت النسخة السينمائية جعفر مدعياُ للثقافة فقط يريد له مريدين ومتابعين كما لسعد الكبير الذي يقتله لمجرد انه اختلف مع النظرية التي ألفها.
تحويل رواية قلب الليل بالذات إلي نص سينمائي أمر ليس هيناً علي الإطلاق فمن السهل كتابة كلمات وحوارات داخلية وخارجية تتناول مخاوف وهواجس الشخصية الأساسية أو بطل العمل جعفر الراوي ولكن من الصعب جداً تحويل تلك الحوارات الفلسفية ذات المستوي الفكري والعقلي المرتفع بعض الشئ إلي سينما بلغة المشاهد واللقطات ولكن ما فعله عاطف الطيب في هذا الفيلم هو إنجاز سينمائي بكافة المستويات.
أزمة ناجي العلي
أثار فيلم ناجي العلي وابلاً من موجات الغضب والنقد وحملات الهجوم الشرس من قبل صحيفة قومية شهيرة (أخبار اليوم) كُرست بالكامل للهجوم علي نور الشريف وعاطف الطيب إلي حد اتهامهما بالخيانة حتي قبل عرض الفيلم فقط بمجرد العلم بأن عاطف الطيب ونور الشريف يشرعان بتقديم شخصية رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي من خلال فيلم سينمائي.
ناجي العلي الذي كان يحمل هماً عربياً وليس فلسطينياً فقط ذلك العاشق الحالم الذي يحلم بوطن عربي مختلف خال من الخيانة والأهم خال من التقاعس فكان يريده وطناً عربياً واحداً إذا تداعي عضو به تداعت له سائر الأعضاء.
لم يعتبر ناجي العلي أحداً كبيراً علي النقد أو الانتقاد سواء كان رئيساً أو زعيماً عربياً أو عالمياً وهو ما خلق له الأزمة والعداء مع الكثيرين.
واجه نور الشريف من خلال أدائه لشخصية ناجي العلي كثيرا من التحديات علي مستوي الأداء التمثيلي ومحاولة إجادة اللهجة إلي محاولة الوصول لروح ذلك المناضل الحر مروراً بمواجهة تلك الحملات الشرسة لإفشال الفيلم ومنعه قبل صنعه ولكنه نجح في التغلب علي معظمها.
دماء علي الأسفلت
يدق عاطف الطيب عدة نواقيس للخطر من خلال هذا الفيلم. ناقوس التفكك الأسري غير المُبرر وناقوس المخدرات وهو الأهم من خلال عائلة نور الحسن (حسن حسني) بعد أن يُتهم بتلقي رشوة مقابل سرقة ملف قضية من القضايا التي يتولى حفظها ليتضح في أخر الفيلم بعد الرحلة التي يخوضها ثناء الابن الكبر لنور الحسن والذي يقوم بدوره نور الشريف في محاولة الكشف عن ملابسات تلك التهمة ليجد ما هو أسوأ من تهمة الرشوة ليجد أخته فتاة ليل وأخوه مدمنا وسارقا.
يتناول الفيلم تلك التغيرات الجذرية التي طرأت علي مجتمع الطبقة الوسطي أكثر شرائح المجتمع تماسكاً وصلابة فلقد قال المجاهد عبد الله النديم إن الطبقة الوسطي هي قوام المجتمع إذا صلُحت صلُح المجتمع وإذا فسدت أو تهاوت تهاوي المجتمع وهو بالفعل ما حدث لمجتمعنا المصري منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي خاصة بعد سياسة الانفتاح الاستهلاكي ثم اختراق تلك الطبقة المتماسكة بكل من شارك في تفككها وتهاويها وكانت أبرز تلك الظواهر ظاهرة انتشار المخدرات بين شباب تلك الطبقة.
يرصد الفيلم محنة الأب الذي توقف عن مراقبة أبنائه واستسلم لكل ما يقولونه لمجرد أنهم يدرون دخلاً مادياً له وللأسرة فحين غاب دور الأب غابت معه العديد من القيم والمفاهيم، الأب عماد أسرة الطبقة الوسطي القائد والقدوة.
فيما يُلقي الفيلم الضوء ولو بشكل عابر علي تجارة الأعضاء ولنا أن نتوقع ما يُمكن أن يحدث في مجتمع يتاجر أطباؤه في أعضاء مرضاه.
لم يهتم عاطف الطيب في دماء علي الأسفلت ثاني تعاون له مع المؤلف التلفزيوني أسامة أنور عكاشة بجماليات الإخراج قدر ما أهتم بتأثير كل كادر ووقعه علي المشاهد فأراده حاملاً لأكبر قدر من الصدمة الشعورية وهو ما اهتم به نور الشريف أيضاً وأصبغه علي أدائه لدور الدكتور ثناء فأجاد التعبير عن مراحل الدور بداية من الاندهاش بما يجري حوله ثم محاولة ربط خيوط الأسرة وما حدث بها من تفكك وبين حادث والده ثم ذهوله مثلاً في مشاهده خاصة مع أخته حنان شوقي.
ليلة ساخنة
ليلة ساخنة هو عودة قوية لذلك الألق للثنائي عاطف الطيب ونور الشريف ليختتم الطيب مسيرته الفعلية برائعة أخري يستلهم من خلالها روح “سواق الأتوبيس”، فالفيلم صرخة مدوية من عاطف الطيب ونور الشريف ورفيق الصبان كاتب سيناريو الفيلم في وجه القاهرة وما تحمله بين طياتها من ظلم وقهر وفقر وفساد وغلب. استطاع الفيلم من خلال ليلة واحدة فقط هي ليلة رأس السنة رصد تلك المفارقات والفروقات التي تحتضنها القاهرة ولا يراها من لم يحتك بالكثير منها احتكاكا قوياً ومباشراً وحقيقاً.
يتحدث الطيب عن عالم يجبر مواطن ومواطنة لا أمل لهما في الحياة سوي تدبير نفقات تنكيس منزل لبلبة ومصروفات علاج والدة زوجة نور الشريف المتوفاة في المستشفي علي الاضطرار لإخفاء مبلغ من المال تحت عربة نور الشريف كان أراد إرجاعه للشرطة ولكن قابلته الشرطة بتحقيق وإهانات كما لو كان هو من سرق النقود.
يتحدث الطيب عن مجتمع لا يعامل أبناءه البسطاء بأدنى حد من الآدمية فلا يحترم لا حقهم في الحياة الكريمة ولا حقهم في التعليم الجيد أو الرعاية الصحية، فنجد شبابا جامعيا يقف علي جنبات الفنادق الخمس نجوم ليقوموا بعمل “المنادي” ليعتمد كل منهم علي بقشيش قد يعطيه له تاجر مخدرات أو سلاح في ليلة مثل ليلة رأس السنة.
مفارقة هذا الفيلم في قيام نور الشريف بدور سائق أيضاً كما في فيلمه “سواق الأتوبيس” مع عاطف الطيب ولكن وبالرغم من ذلك فسائق “سواق الأتوبيس” يختلف تماما عن سائق “ليلة ساخنة” بما لكل منهما من معطيات وظروف.
استطاع الطيب من خلال هذا الفيلم تجسيد مدي قهر القاهرة لأبنائها البسطاء من خلال لقطات معبرة ومُكثفة للمشاعر كمشاهد إلقاء النقود علي راقصات الفنادق في حين يتعذر علي سيد وحورية جمع مبالغ مالية هزيلة لكنها تكاد تصل بالنسبة لهم حدود قمة افرست في صعوبة الوصول لها لكي يتمكنوا من عيش حياة أقرب للحياة الآدمية.
قدم الراحل رفيق الصبان من خلال سيناريو ليلة ساخنة مواقف درامية استطاع من خلالها الطيب خلق معادل بصري قوي جداً ومُعبر عن مدي معاناة أبطاله.
عاد نور الشريف من خلال تلك الليلة الساخنة والمليئة بالأحداث للانصهار التام داخل الشخصية فيبدو وكأنه لا يُمثل، فأجمل أدوار نور الشريف تلك التي نحي فيها صنعته وحرفيته جانباً كي يكون الشخصية فقط.. الشخصية فيما بدا من خلال مشاهد عديدة بالفيلم علي مدار الفيلم بكامل تحولات شخصية سيد فنري تعبيرات وجهه المعبرة جداً حينما رأي الممرضة العابثة سلوي عثمان وهي ترقص مع زميلاتها في نبطشية المستشفي المسائية تعبيرات بسيطة ولكنها معبرة كما في تعبيرات وجهه حينما عرضت عليه لبلبة مساعدتها لاسترداد ما سرق منها ومدي تردده في البداية ثم موافقته انتهاء بتعبيرات وجهه في مشهد النهاية حينما نظر إلي لبلبة نظرة حانية ومعبرة عن مدي القهر والانكسار الذي لا يستحقه لا هو ولا هي ونظرتها له بأن لا تقلق وبأنها ستتولى عملية حماته وفقط تريد منه أن يهتم لنفسه ليعود سيد داخل القسم وتمضي حورية في طريقها وبداخل كل منهما أمل في حياة مختلفة حتي وان كانت عن طريق غير شرعي فقد أعطت لهم السلطات ذريعة قوية لجعل المال مالاً حلالاً ولترتاح ضمائرهم تجاهه.