«المذنب».. تحدي دنماركي مدهش لمؤثرات الصوت أمام سينما الصورة
«سينماتوغراف» ـ أسامة عسل
فيلم (Den Skylige ـ The Guilty) أو «المذنب» باللغة العربية، الحاصل على جائزة الجمهور في مهرجاني صندانس الأميركي وروتردام الهولندي، يمثل الدنمارك في سباق الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام 2019، عرضه مهرجان الجونة السينمائي ضمن دورته الثانية التي انتهت مؤخراً، ويمكن مشاهدته خلال فعاليات بانوراما الفيلم الأوروبي بالقاهرة يومي 9 و 12 نوفمبر المقبل، وهو أقرب ما يكون إلى دراما إذاعية لما بدت عليه الصورة من ثانوية أمام الصوت، ورغم ذلك فطن مخرجه جوستاف مولر إلى هذه العلاقة، ونجح بامتياز في إثارة المشاهد، ليؤكد أن (أقوى الصور السينمائية وقعاً، تلك التي لا نراها) !، محققاً تحدياً مدهشاً بصنع عمل التزم فيه بوحدة (المكان والزمان)، واعتمد كثيراً على المؤثرات الصوتية وقوة أداء ممثل وحيد حمل على كاهله ثقل الفيلم طيلة الأحداث التي امتدت إلى 85 دقيقة.
تدور القصة تحت سقف واحدٍ، مركز استقبال مكالمات نجدة الشرطة في الدانمارك، ونستنتج منذ المحادثات الأولى، أن (أصغر هولم ـ يؤديه جاكوب سيدرغرن) ضابط ميدان في الأصل، ويعمل في وظيفته الحاليّة مؤقتًا، كما ندرك أنه شخصٌ نبيهٌ، يحاول أن يعمل بتفان رغم ضيقه من مهمته المؤقتة، وتبدأ الإثارة حين يتلقى نداء استغاثةٍ من امرأة مخطوفة تدعى (إيبن).
يتحول الفيلم منذ تلك اللحظة إلى رحلةٍ ذهنيةٍ مثيرةٍ، حيث يتنقل المشاهد بين مكالمات البطل المتوالية في محاولةٍ لكشف الحقيقة وإنقاذ المرأة، صحيح، لا نرى (إيبن) ولا أي طرف فاعل في الأحداث، وعدا ذلك بعض الوجوه الثانوية العابرة التي يمثلها زملاء (أصغر) في المركز، إلا أننا لا نرى سواه على الشاشة، ومع ذلك، لا يبدو التقاط الأنفاس بسيطًا خلال متابعة الأحداث.
والمذنب ليس أول فيلمٍ يحمل هذه التيمة، فمنها الكثير، وأشهرها تحفة سيدني لومي (اثنا عشر رجلاً غاضبًا ـ Twelve angry men) التي أنجزها منذ الخمسينيات، كما أنه ليس أول عمل من هذا النوع يعتمد على المكالمات الهاتفية للسير بالأحداث، فقد سبقه فيلمٌ رائع من بطولة كولن فارل بعنوان (كابينة الهاتف ـ Phone Booth) عام 2002، وآخر من بطولة توم هاردي بعنوان (لوك ـ Locke).
لكن الجديد في فيلم (المذنب)، أن المكالمات الهاتفية التي يجريها أو يستقبلها بطلنا أصغر، لا تقتصر على حوارٍ يكشف عن الحقائق أولاً بأول، بل هي أقرب للكاميرا التي تنقل إلينا ما يحدث خارج إطار الصورة، إن الأحداث الحقيقية تجري أولاً بأول خلف سماعة الهاتف، ولا نحصل منها سوى على الأصوات، نركبها على مشاهد من صنع أذهاننا، لنحصل على الأحداث الفعلية للفيلم، وهنا وجه الإبهار.
إن الإخفاء من عادات سينما الإثارة، أما مع جوستاف مولر، فقد بلغت تيمة الإخفاء مبلغ التطرف، فلم نعد نرى من المشهد حتى ذلك القدر القليل، بل فقط أصواتًا برع في تصميمها وهندستها، فوصلت إلينا عبر سماعات (أصغر)، موحيةً بكل القصص والأحداث التي أرادنا أن نعرفها.
ولا تحتاج الأصوات إلى هوامش للشرح، حين هاتفتْ (إيبن) بطلنا، فهمنا مثلما فهم أنها في سيارةٍ، وأن لديها طفلين وحيدين في المنزل، وأنها تحاول إخفاء طبيعة المحادثة عن شخصٍ آخر يرافقها، نعرف بعد ذلك أن زوجها هو الذي خطفها، وحين أقدمتْ إيبن على الهجوم لتهرب من مصير الاختطاف، كانت الجلبة بليغةً إلى حدٍ ترى به أذهاننا تفاصيل ما حدث، وبلغت المشاهد الصوتية ذروتها مع بحث الشرطة عن أخي ماتيلده، فكان لوقع خطواتهم عبر الهاتف وانقطاعها أثر نفسيٌ هائلٌ هو أبرز نجاحات الفيلم، وأكثر أشكال الاختزال الفني تطرفاً.
تقوم القصة على ثنائيةٍ ـ مألوفة ـ بين واقع البطل ومغامرته، في الأولى هو متهم وعاجز وينتظر الحكم له أو عليه في تسليم مطلق، وفي الثانية، يصبح قوياً مبادراً، مهووساً بتجاوز قدراته المحدودة ومن خلال استقبال مكالمات النجدة، ليتحول إلى المنقذ الفعلي للضحايا.
لا شك إذاً أن الحالة الأولى وهي سابقةٌ، تصبح دافعاً وعلةً لوجود الحالة الثانية، وبعبارة الأخرى، فإن اندفاع (أصغر) المفرط لإنقاذ (إيبن) يعود إلى ذلك الشعور بالذنب الذي يخبئه وراء اعترافه الرسمي الذي يتدرب من أجل إعلانه للقضاء، وهو الدفاع عن النفس، ولا يتعلق تسمية الفيلم بالمذنب بما يخص فقط قضية اختطاف إيبن، وهو ما يجعل من الأحداث مناورةً داخل المناورة.
تبقى التيمة الأهم في الفيلم، هي وضوح قصور حواسنا على اقتفاء أثر الحقيقة، إن الحقيقة هلاميةٌ ذاتيةٌ، لا نكاد نظفر ببعضها حتى يخيل إلينا أننا امتلكناها جميعاً، دائمة السخرية من ذكائنا ومن ثقتنا بملكاتنا وحواسنا ومنطقنا، وما يميز سيناريو (المذنب)، هو إشراك المشاهد في عملية الاستنتاج حتى يخدع بذات الطريقة التي خُدع بها البطل، ما يجعل شعورنا بنسبية الحقيقة وعجز الحواس مشتركًا مع البطل.
من المؤكد أن الفن السابع وإن اعتمد في أحد أشكاله تطرفًا على الصوت، يحتاج إلى أن يعبر بالصورة حتى يحافظ على ذاته أو هويته، وكان المخرج جوستاف مولر واعيًا بهذه المسألة، فحاول استعمال أدواتٍ متنوعةٍ للدخول بالفيلم مرة أخرى في بوتقة السينما، ولذلك أضاف بعض المواجهات بين أصغر والعاملين في المركز، حيث يطلب الصفح من زميلٍ له، ويجابه ملاحظات رئيسته بشكل ساخرٍ حادٍ، وهي بالطبع مواقف لم يكن لها من داعٍ أو إفادة للقصة الرئيسية سوى كسر سلسلة المحادثات الهاتفية التي يتأسس عليها الفيلم، ومنح المشاهد تجربة السينما البصرية المألوفة عوض تلك السمعية الغالبة عليه، وفي مشاهد متقدمةٍ، حاول المخرج أيضاً أن يعبر عن مشاعر البطل بأكثر من خلال اللقطات المقربة، فاستعمل معه لعبة الأضواء، وعكس انفعالاته باللون الأحمر والأزرق والنور والظلمة، والحقيقة أن هذه المحاولة كانت موفقةً، لكن مساحتها كانت محدودةً، وظل التزام الفيلم بالشكل البصري بسيطًا ليؤكد أنه مغامرة سينمائية كبيرة، تستحق المشاهدة والتأمل.
فيلم (المذنب) يكشف عن عظمة السينما وقدراتها، ويؤكد من جديد أن متعة المشاهدة وعمق الرؤية لا يأتيان بتعدد أماكن التصوير، أو تعدد الشخصيات، وأنه يمكن أن يُصنع فيلماً مذهلاً في «لوكيشن» واحد وعبر بطل واحد.