«الرابع من برايتون».. يراهن على معارك الحياة
«سينماتوغراف» ـ أندرو محسن
لا تزال علاقة الآباء بأبنائهم مثيرة لصناع الأفلام. في السنوات الأخيرة عرضت عدة أعمال تحاول تحليل دور الأب وعواطفه في ظروف مختلفة،، وأكثرها حمل عنوان “الأب”، مثل فيلم المخرجين كرستينا جروزيفا وبيتر فالكانوف (2019) الحاصل على الكرة الكريستالية من كارلوفي فاري، وفيلم المخرج سردان جلوبوفيتش الذي حصل على جائزة الجمهور في قسم البانوراما من مهرجان برلين (2020)، وربما أشهرها فيلم المخرج فلوريان زيلر (2020) الذي حصل على جائزتي أوسكار في بداية هذا العام.
يختار المخرج ليفان كوجاشفيلي شخصية الأب أيضًا لفيلمه “الرابع من برايتون” (Brighton 4th) لكنه يختار زاوية جديدة لعرض شخصيته. يعرض الفيلم ضمن مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بجدة في دورته الأولى.
يبدأ الفيلم في إحدى المقاهي التي يُراهن روادها على نتائج مباريات كرة القدم. بينما نجد شخصًا يخسر رهانًا كبيرًا، ونتابعه لعدة دقائق، نظن أنه هو الشخصية الرئيسية في الفيلم، لنعرف أنه ليس إلا شقيق البطل، وهو المصارع السابق كاكي (ليفان تيداشفيلي). هذه البداية إنما تعطينا انطباعًا أوليًا عن هذا البطل الذي سنشاهده خلال مدة الفيلم، قوته البدنية كونه رياضي سابق، ولا زال يعمل في التدريب على المصارعة، تكاد تكون ميزته الوحيدة.
نستكشف تدريجيًا أبعاد هذه الشخصية، يبدو كاكي لا مباليًا في مظهره الخارجي، بينما تظهر أفعاله دائمًا بصورة معاكسة، إذ يحاول العمل سريعًا لمساعدة أخيه ومساعدة ابنه أيضًا عندما يعلم أن هذا الأخير غارق في ديونه في أمريكا فيضطر للسفر لمساعدته. يظهر لنا وكأنه خَبِر الحياة وشاهدها بالكامل من قبل، وبالتالي فلا يوجد أي شيء سيدفعه للدهشة أو للغضب أو حتى لأي نوع من الانفعال المبالغ فيه.
تبدو هذه الشخصية نظريًا صعبة التنفيذ، وتحتاج إلى ممثل قدير، يمكنه أن يعبر بالقدر الأدنى من الانفعالات عما يعتمل داخل نفسه. المدهش أن الممثل الذي لعب الشخصية، ليفان تيداشفيلي، ليس ممثلًا محترفًا بالأساس بل هو بطل مصارعة سابق، لكن المخرج ببراعة نجح في أن يجعله يعبر عن كل تفاصيل الشخصية.
طوال مدة الفيلم نجد على وجهه هذا التعبير بأنه غير مهتم بشكل حقيقي بما يحدث، بينما في الآن ذاته يمكننا أن نشاهد كيف تعكس عينيه ما يدور بداخله، وخاصة الحزن الملازم له طوال الأحداث تقريبًا.
تعتمد فكرة الرهانات بالأساس على جانب كبير من الحظ والمخاطرة، في كل مرة يضع شخص رهانه على شيء ما، فإنه يضع في الحسبان بعض العوامل التي ترجح كفة ما سيراهن عليه، لكن يبقى في النهاية عنصر الحظ حاضرًا. هذه النسبة من الحظ والمخاطرة هي ما تجعل الرهانات جذابة للكثيرين، وجذابة سينمائيًا أيضًا، إذ لا يمكن توقع ما ستؤول إليه أبدًا.
تبدأ أحداث الفيلم برهان كما ذكرنا، وتنتهي برهانٍ آخر، وبينهما نشاهد عدة رهانات من شخصيات أخرى. الرهان الأول يقع في جورجيا، موطن كاكي، بينما الأخير كان في بروكلين في أمريكا، التي انتقل إليها واضطر للبقاء فيها لمساعدة ابنه في الخلاص من ديونه.
يوظف الفيلم الرهانات ليبرز أكثر طبيعة شخصية بطله، ويوضح الاختلاف بينه وبين ابنه. يبدو كاكي أكثر واقعية وعملية، لا يعتمد كثيرًا على الحظ والصدف، بينما الابن على العكس غارق في الرهانات والديون. تأتي المفارقة الأمتع في الفيلم في فصله الأخير، إذ تضع الظروف الأب في موضع لا يمكن التعامل معه بشكل عقلاني بالكامل، وبالتالي يجد نفسه مضطرًا للرهان هو الآخر حتى يحاول تفادي المأزق الذي وُضع فيه الابن، الأمر المنطقي الوحيد للخروج من المأزق هو المغامرة بكل ما يملك والاعتماد على الحظ ولو لمرة أخيرة، الرهان ربما على الحياة نفسها.
تدور أغلب أحداث الفيلم في بروكلين في الولايات المتحدة، وتحديدًا في حي برايتون، ورغم هذا سيبدو لنا أننا لم نخرج من جورجيا، إذ أن الشخصيات والأماكن تبدو وكأنها هناك، نتيجة تواجد الكثير من مواطني جورجيا في هذه المنطقة. يستغل مخرج الفيلم هذا التشابه في فيلمه بشكل لاذع، إذ أن هؤلاء الذين لجأوا إلى أمريكا ليحصلوا على الإقامة ويعيشوا الحلم الأمريكي، وجدوا أنفسهم يكررون نسخة باهتة من حياتهم في جورجيا، حياتهم التي هربوا للبحث عن أفضل منها.
مفارقة أخرى ربما تكون الأبرز في هذا الفيلم، وهي عبثية السعي في الحياة نحو الأفضل، بينما يجد الأبطال أنفسهم يرجعون للوراء أو يُقيّدون أنفسهم بالمزيد من القيود مع كل خطوة جديدة يخطونها.
من أمتع ما قدمه الفيلم، الشخصيات الثانوية التي ظهرت في البناية التي يسكنها الابن، وهي الشخصيات التي نتعرف عليها تباعًا عندما يصل كاكي إلى البيت. جميعهم يحملون أحلامًا مؤجلة لم تمهلم الحياة تحقيقها، ولا يبدو أن أيًا منهم نجح في معايشة الحلم الأمريكي. هكذا يجد الأب نفسه في مواجهة مع ما يمكن أن يكون مستقبل ابنه، إذا لم يتدخل لمساعدته.
فيلم “Brighton 4th” عرض للمرة الأولى في مهرجان ترايبكا حيث حصد جوائز أفضل فيلم روائي طويل وأفضل سيناريو وأفضل ممثل والتي ذهبت لليفان تيداشفيلي، وهو الاختيار الرسمي لجورجيا لتمثيلها في الأوسكار.