«لا تنظر للأعلى».. واقع مأساوي في قالب ساخر
«سينماتوغراف» ـ منى حسين
إذا كنتم تعتقدون أن (Don’t Look Up ـ لا تنظر للأعلى) مجرد فيلم عن نهاية العالم بسبب مذنّب سيضرب الكوكب، فأنتم مخطؤون! إنه فيلم يحاول أن يذكركم مراراً وتكراراً أن الموت قريب جداً ولأسباب مثبتة علمياً، لكنكم مثل معظم من يعيش على هذا الكوكب الأزرق الجميل تجارون الأحداث وتعيشون بالنكران، ممتنعين عن النظر إلى السماء إلى حين النهاية الوشيكة في أي وقت.
ينقسم الفيلم إلى 3 محاور، المحور الأول هو اكتشاف المذنب، والمحور الثاني هو محاولة رفع الوعي تجاهه، والمحور الثالث هو ردود أفعال الحكومة والشركات المسيطرة على الاقتصاد والشعب بحد ذاته حول هذه المسألة.
يأتي Don’t Look Up من إخراج آدام ماكاي (مخرج أفلام مثل The Big Short و Vice و The Other Guys)، والذي ساهم بتأليفه أيضاً. ويتمكن الفيلم من ملامسة المشاهدين فعلاً لأنه بالرغم من كونه يروي قصة خيالية بقالب كوميدي حول أحداث لم تحدث حقاً، إلا أنه من أكثر الأفلام واقعية اليوم. فيسلط الضوء على مدى جهل الشعوب وإنكارها للواقع، ومدى تلاعب السلطات وتجاهلها لأي شيء لا يخدم مصالحها.
وفي عصر يعيش فيه العالم تحت ظل وباء قاتل، إلى جانب التغيرات المناخية الخطيرة التي تهدد كوكبنا، ما يهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي هو المعلومات الترفيهية الفارغة، بالإضافة إلى تسييس كل شيء حتى مسألة الموت. وحتى الحقائق العلمية تتعرض للرفض من قبل الكثيرين. فيسرد ماكاي قصته عبر تقديم شخصيات كوميدية لإيصال صوته ومدى إحباطه من الحال التي وصل إليها كوكبنا ومن يعيشون عليه.
يحاول ماكاي أن يصرخ للعالم أجمع، افعلوا شيئاً لإنقاذ العالم وإلا فسنخسر كل شيء، وتأتي هذه الصرخة من طالبة تحضر الدكتوراة كايت ديباسكي (جنيفر لورانس) التي تكتشف هي وبروفيسورها د. راندال ميندي (ليوناردو ديكابريو) أن مذنباً يبلغ عرضه حوالي 9 كم سيضرب الأرض ويدمرها بعد حوالي 6 أشهر.
إنه “قاتل للكواكب” كما يطلقون عليه، وبعد إحباطهما من ردة فعل المكتب الرئاسي، يلجآن إلى الإعلام على أمل أن يفهم الناس مدى خطورة الأمر.
“سنموت جميعاً” تصرخ كايت في برنامج تلفزيوني باستضافة مذيعان يمثلانهما تايلر بيري وكيت بلانشيت بعد ردة فعلهما الساخرة حول الأنباء، لكن سرعان ما يتم تهميشها بل واعتبارها مصابة بالجنون، فتتحول إلى (مجرد لقطات ساخرة) تنتشر عبر الانترنت بسرعة أكبر بكثير من انتشار الخبر الكارثي بحد ذاته.
يروي ماكاي قصته في أمريكا خيالية تترأسها رئيسة فاسدة (ميريل ستريب) بأسلوب يستوحي من ترامب بغالبيتها، ومن هيلاري كلينتون بجزء صغير منها، مع ابنها المدلل (جونا هيل) عديم الفائدة كرئيس للأركان، وإدارتها الفاسدة. وفي البداية يتركز اهتمامهم بالتفكير، كيف أنه لا وقت لهذه الأنباء كي لا تؤثر على فوزهم بالانتخابات النصفية، ولا يهتمون حقاً إلا عندما يحتاجون إلى حشد الجماهير لصالحهم بعد فضيحة جنسية فيستغلون الكارثة تحت ستار الوطنية.
وهنا يسلط الفيلم الضوء أيضاً على مدى تدخل الشركات الضخمة بالسياسات والحكومات، ويصور ذلك بشخصية الملياردير (يلعب دوره مارك رايلانس بأداء شديد البرودة بشكل يثير القشعريرة) صاحب شركة تكنولوجية عملاقة، والذي كل ما يهمه من الكارثة هو الاستفادة مادياً على حساب الشعوب، لكن هذا لا يعني أن الشعوب نفسها غير ملامة.
يثبت الفيلم، مع تطور أحداثه أننا حمقى ومحكوم علينا بالهلاك كجنس بشري، فالنتيجة هي نفسها، سواء كان فيروس قاتل أو كوارث بيئية أو الاحتباس الحراري أو مذنب قاتل سيصدمنا. سينتهي العالم، لكننا نهتم لـ (لصور السوشيال ميديا الساخرة والمضحكة ببلاهه) أو انفصال مطربة (بأداء رائع من آريانا غريند) عن حبيبها الموزع الموسيقي أكثر من اهتمامنا من بقائنا على قيد الحياة (لكن يجدر ذكر مدى روعة الأغنية التي تؤديها مع كيد كودي في الفيلم). وحتى عندما يدرك الشعب حقيقة ما يجري، فإنه ينقسم بين مصدق ومكذب للمسألة مع انتشار نظريات المؤامرة، وحملة (لا تنظروا للأعلى) التي هي عنوان لفيلم في تصوير لمدى إنكار الشعوب للواقع وإشاحة نظرهم بعيداً عما هو حقيقي وواضح أمامهم لو أمعنوا النظر حقاً.
إن الفيلم منفصل عن الواقع بقدر ما هو واقعي، ولا يمكن إنكار مدى براعة ماكاي بنسج قصة تتحدث حول ما يحدث في هذه اللحظة، فالمقارنات وأوجه التشابه كثيرة، بداية من كوفيد والمناهضين للقاحات ووصولاً إلى هيمنة الشركات العملاقة على كل شيء حتى مستقبل الشعوب، إلى تسييس كل شي وفقاً لما يناسب الحكومات. لكن ليس كل شيء سوداوي هنا.
فعلى سبيل المثال هناك شخصية الفتى (يلعب دوره تيموثي شالاميه)، وهو شاب عدمي لا يصدق أو يثق بأحد ولا يهتم بالمؤامرات، بل يجد نفسه منجذباً لصرخة كيت على شاشة التلفزيون، والذي يؤديه شالاميه بأداء رائع. لكن من يختطف الأضواء حقاً بالفيلم هي لورانس وديكابريو، فبالرغم من طاقم الممثلين الضخم والرائع، إلا أن لورانس تجسد بشكل رائع الشعور بالإحباط الذي نشعر به جميعنا كمشاهدين، فتضيء الشاشة في كل مشهد تظهر فيه. بالإضافة إلى ديكابريو الذي يقدم أداءً نجومياً كما اعتدنا منه بدور البروفيسور المتوتر والمضطرب في البداية، والذي يتغير أداءه مع تغير شخصيته حيث يصبح لاحقاً الوجه الإعلامي لكل ما يتعلق بالمذنب.
وبالحديث عن الأداء الرائع، لا حاجة للحديث بالطبع حول الحائزة على الأوسكار ميرل ستريب، والتي تقدم أداءً متألقاً بدور شرير لم نرها فيه منذ فيلم The Devil Wears Prada، فتنجح بشكل رائع وهي تجسد الرئيسة اللامبالية سوى بنفسها، وليس حتى بابنها، ومن ناحية أخرى هناك بلانشيت التي تلعب دور المذيعة المزعجة التي لا تهتم لشيء سوى إضفاء طابع السخرية على أي موضوع يتحدثون عنه على الهواء بشكل رائع أيضاً.
لكن ما يعاني منه Don’t Look Up أحياناً هو بطء وتيرة أحداثه، فتمتد بعض المشاهد أكثر اللازم، والذي نظراً لمدته الطويلة التي تقارب ساعتين ونصف، كان من الممكن أن يقدم الأحداث بشكل أكثر تركيزاً لو تم تقديمه على ساعتين فقط، كما يعاني في بعض الأوقات من اختيار ماكاي لطريقة الإخراج، فيخرجنا أحياناً بشكل مفاجئ من أحد المشاهد وينقلنا إلى أخرى بطريقة غير متوقعة قد تخرج المشاهدين من الأجواء للحظة.
رغم أن الفيلم ينسى نفسه أحياناً فيغرق بالسوداوية أكثر من اللازم، كما أنه قد لا يكون ملائماً للجميع، خاصة لمن لا يحاولون قراءة ما بين السطور وإجراء مقارنات مباشرة مع واقعنا الحالي، إلا أنه بكل تأكيد ليس مجرد فيلم اعتيادي من نتفليكس، ليس فقط بفضل طاقم عمله النجوم الرائعين، بل بفضل الإسقاطات المبدعة على واقع مأساوي حقيقي بقالب فكاهي ساخر.