مخرجة سورية تهرب من واقعها المأزوم عبر ثلاثة أفلام قصيرة
«سينماتوغراف» ـ متابعات
أجرى القائمون على صالة “سي.أ.سي نوازي لوسيك” في فرنسا مؤخراً حواراً على تطبيق “زووم” مع الفنانة السورية رندة مداح حول ثلاثة أفلام قصيرة من إخراجها، وهي “ترميم” (11:52 دقيقة) و”خفة الأفق” (7:33 دقيقة) و”قيد النظر” (7:07 دقيقة).
ونقل البيان التوضيحي المرافق للعروض الثلاثة بعضاً من كلام الفنانة عن فيلم “ترميم” الذي قالت عنه “الباحثون عن ذواتهم تائهون. غالباً لا يفلحون في استرجاع ما كان قائماً قبل حلول الخراب في بلدانهم. ما تبقّى لهم محض قشور هيّنة التفتيت تتزاحم في ذاكرتهم المليئة بالثغرات.. كيف لي أن أستوعب التدمير؟ الحدود شوّهت وجهة المكان الذي أتيت منه، وغيّرت خارطته، ورفعت الجدران من حول حياة الناس..”.
وأضافت “ثمة قطع إسمنت وصور فوتوغرافية هي بقايا هذا المكان.. قصقصتُ عناصر من تلك الصور، راجية، بشيء من اليأس، العثور على أرض بديلة، حتى لو كانت محاولتي هذه محكومة بالزوال، شأنها شأن القصص والقرى التي مُحيت”.
أما الفيلم الثاني فهو “قيد النظر”، ويوضّح البيان أن تصوير الفيديو جرى من سطح منزل الفنانة في مجدل شمس الحدودية التي تقع على خط وقف إطلاق النار، وهي شاهد على هذا الفصل المأساوي حيث تمّ ترحيل غالبية السكان المحليين إلى سوريا غير قادرين على العودة إلى منازلهم والالتقاء بعائلاتهم.
ومن خلال المرايا، يتمّ وضع المنشآت العسكرية الإسرائيلية والسورية على نفس خط الرؤية.. بالنسبة إلى الفنانة، هي رؤية مجزأة لنفسها المجزأة في منظر طبيعي جميل تشعر به.
ويصف البيان مجريات الفيلم الثالث “خفة الأفق” بهذه الكلمات “امرأة ترتّب غرفة منزل مدمّر في قرية عين فيت في الجولان السوري المحتل التي دمّرتها القوات الإسرائيلية عام 1967 مع العديد من القرى الأخرى. قامت كاميرا ثابتة بتصوير الفنانة أثناء قيامها بأعمال منزلية في منزل مدمّر”.
في أواخر الفيلم تقوم الفنانة بتأثيثه ببضعة قطع لونها أبيض، طاولة، وغطاء طاولة، وما يشبه مزهرية أو وعاء يفترض أن يضمّ “حلوى للضيافة” وكرسي ولوحة لا يستطيع المُشاهد تحديد ماهيتها، تقوم الفنانة بتعليقها لتجلس متأملة بالمشهد الطبيعي المُرصّع بمنازل قليلة.
لدقائق المُشكّلة لتلك الأفلام الوارد ذكرها باقتضاب آنفا، ليست قائمة بذاتها، بل هي تكثيف لهواجس مداح التي تبلورت نفسياً وفنياً على مدى السنوات التي أقامت فيها معارض فردية وشاركت بمعارض جماعية.
فمعارضها الفردية “رصاص على ورق” و”ربطة شعر” و”مسرح الدمى” كانت كفيلة بإدخالنا إلى عالم الفنانة الغنيّ من ناحية الأفكار والبصريات.
عالم حفل من ناحية بالتجهيز والنحت والرسم والسينوغرافيا واستخدام المؤثرات الصوتية، ومن ناحية ثانية احتوى أفكاراً عديدة متشابكة دارت في فلك الذاكرة والنسيان، والأمل واليأس والحنين، والهوية الجماعية والفردية، والإقصاء والتهجير.
المتأمل في أعمالها بشكل عام سيرى كيف اصطفت لاحقا اللون الأبيض ليكون حليفا لها بعد أن هرب من “كلسية” الدمى البيضاء التي حضرت بكل قهرها الصامت في أحد معارضها وكيف نحت السكون، وليس الصمت، تمتمته في أجساد شخوصها المهزومة وفي أفواهها المفتوحة بصرخات مخنوقة، وكيف انسدل على جدران البيوت المهدّمة والشبابيك المُطلة على الذات وعلى المشاهد المُقفلة والمفتوحة.
وسيرى أيضاً كيف اصطدمت الرقة بالجراح عدة مرات لتستحيل ستائر بلون أبيض يخفق خفقان الروح في الفراغ بين صمت وسكون، وبين بوح وانكفاء لينهال دون أن يتبدّد على الجدران العفنة لمنازل افتقدت أهلها.
أما التحوّل من المُباشرة إلى عالم الاستعارات والترميز فجاء واضحاً عندما اعتمدت الفيديو وسيلة تعبيرية معاصرة. وتختصر كلماتها الواردة لاحقاً، والتي قالتها في إحدى المقابلات، تبلور موقفها تجاه التعبير الفني “هل نستطيع الفكاك من هكذا واقع بالتجريد؟ ربّما نستطيع ذلك”.
اختارت مداح في تلك الأفلام الثلاثة التجريد، ولكن في القدر الكافي الكاره للإبهام والمتيح لأفكارها أن تتشكّل وتتبلور في عقل وقلب المُشاهد على السواء.
دمجت في هذه الأفلام هواجسها النفسية والسياسية والاجتماعية وصهرتها بقوالب شعرية رقيقة برقة الستائر البيضاء التي ظهرت في فيلمها “خفة الأفق” الذي ربما يكون الأفضل من بين الأفلام الثلاثة. وتفضيل فيلم على آخر مرهون بذائقة كل مُشاهد على حدة ومخزونه العاطفي الذي يسمح له بالتعاطف مع فيلم أكثر من الآخر كما هو الحال مع كل عمل فني معاصر.
فيلم “خفة الأفق” يُمكن رؤيته وفهمه وفق ثلاثة محاور: العادي والسكون والأبيض، وميضا أو لونا.
والمحور الأول، ماهية العادي، الذي يعيد المشاهد إلى زمن الحرب اللبنانية حيث ترتفع فيه وتيرة العنف الحربي، وفي فيلم “خفقة” أفق خفيف ولاذع بخفة الجليد المتكوّن حديثا بعد “المطرة” الأولى في أعالي الجبال. في الفيلم منزل كقارب بعدة أشرعة يخفق بسكون الحزن أمام مواقف همجية لا يستطيع حيالها شيئا.
الفنانة في فيلمها هذا لا تنظف المكان المفتوح على الخراب وعلى المشهد الطبيعي لسوريا بقدر ما هي تقاوم بطريقتها الخاصة القلق والموت. إنه فعل صمود وثورة وأسلوب من أساليب الحماية الذاتية. كان عليّ أن أرى هذا الفيلم لأعثر على معنى ما كنت أقوم ولا زلت حين تشتدّ الأزمات المفتوحة في بلدي.
أما المحور الثاني فهو السكون (وهو يواكب المحور الثالث، أي اللون الأبيض ويتجلى به). السكون حضر من ناحية في فيلم “خفة الأفق” كلون الستائر الخافقة وكلون للأثاث المتواضع الذي وضعته الفنانة في الفيلم بعد أن أنهت تنظيف الغرفة/ الخربة. وارتبط السكون من ناحية أخرى ارتباطا وثيقا بفكرة الضوء والوميض حين حاكا شظايا المرايا/ الذاكرة الشخصية والجماعية في فيلم “قيد النظر”.
السكون في معجم الفنانة البصري والنفسي متصل بفكرة جريان الزمن حينما يكون بطيئا إيقاعه، أي ماراً بوتيرة لا يلاحظه فيها أحد لاسيما القاتل. يصبح هذا السكون في “خفة الأفق” مضاعفا بأبيض الستائر والطاولة والكرسي، إذ يجسّد ما يشبه درع وقاية من القاتل ريثما تلتقط الضحية أنفاسها أو تتحرّر من قبضته.
السكون في أعمال الفنانة مداح هو عدوّ للنسيان وهو حليف للضحية. وهو الحامي، بأبيضه البارد/ البارز اشتعال رغبة الضحية في متابعة العيش والإفلات من الفناء، لأنه يخفيه تحت نصاعته وبرودته.
عالم الفنانة ابنة الجولان الحدودية هو عالم الما بين، ما بين الواقع والحلم، الموت والحياة، الخوف من النسيان والانتصار عليه من خلال هوية هجينة تُتيح له الاستمرار. هوية قوامها ماض عريق واعتراف بواقع مُصدّع يملي شروطه القاسية إلى أجل غير مُسمى.