انجازات حياة الممثل «سيدني بواتييه».. الأسود الذي تنافس مع البيض
«سينماتوغراف» ـ متابعات
لا ينظر الأمريكيون الأفارقة، ومعهم نسبة كبيرة من الأغلبية البيضاء والأقليات الأخرى، إلى سيدني بواتيه كممثل فقط، بل يعتبرونه رمزًا إنسانيًا، ومفكرًا كبيرًا، وعلمًا بارزًا، ودبلوماسيًا، ومخرجًا ناجحًا، وفوق هذا وذاك داعيًا للحرية ومكافحًا ضد العنصرية والتمييز، فإنه يحتل في عالم الفن مكانة تقترب من مارتن لوثر كينج، داعي الحقوق المدنية الشهير، على الساحة السياسية الأمريكية.
أصبح للسينما العالمية مذاق إبداعي خاص بعبقرية ”السير سيدني بواتيه“، المولود في 20 فبراير 1927 في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي هي جزء من الجنوب العنصري ضد السود، فالقليل يعرف أنه تم تسجيل ميلاده في ميامي، ولكنه في الواقع ولد في عرض البحر بسفينة قادمة من جزر البهاما، مع والده الذي تعود أصوله إلى”هايتي“ إحدى بلدان البحر الكاريبي، ووالدته التي تنتمي إلى جزر البهاما، وكان والداه فلاحين يزرعان الطماطم ويبيعانها بالأسواق.
وتم تسجيل ميلاد بواتيه في ميامي، لأن السفينة كانت أقرب إلى مياه فلوريدا من أي مكان آخر، وبالتالي أُعتُبِر الرجل أمريكي الميلاد.
ويعد بوتيه من أوائل الأمريكيين الأفارقة الذين اخترقوا أجواء السينما الأمريكية، فهو أول ممثل أسود يحصل على جائزة الأوسكار، ففتح الباب أمام ممثلين سود حصلوا على الجائزة وهم دينزل واشنطن، وفورست ويتاكر عن دوره في فيلم ”آخر ملوك أسكتلندا“، وويل سميث عن دوره في فيلم ”ملاحقة السعادة“، وجنيفر هدسون عن دورها المساند في ”فتيات الأحلام“، وإيدي ميرفي عن دوره أيضًا في ”فتيات الأحلام“، وكذلك جيمون هونسو عن دوره المساند في فيلم ”مجوهرات الدم“، ولكن يبقى الفضل الأكبر في فتح الباب أمام الممثلين السود في حصد الجوائز، هو صاحب التحفة الإبداعية ”خمّن من سيأتي للعشاء“، وفيلمه عن ”نيلسون مانديلا“.
حصل بواتيه عام 1999 على الترتيب 22، لأفضل ممثلي السينما الأمريكية على الإطلاق عبر 100عام، وذلك ضمن فعاليات يقوم بها معهد الفيلم الأمريكي .
وصلت نجومية ”سيدني بواتيه“ إلى ذروتها في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حيث حصل سيدني على جائرة في عام 1963، عن دوره في فيلم ”زهور الحقل Lilies of the Field”، ولكن من الغريب أن كثيرًا من الأمريكيين لا يتذكرونه كأول ممثل أسود يحصل على جائزة ”أوسكار“، باعتبار ذلك أبرز إنجاز حققه في مسيرته العملية، ولكنهم يتذكرونه كأول ممثل أسود يطبع قبلة على خد ممثلة بيضاء.
تعود هذه القبلة إلى عام 1927، وهو العام الذي بدأ فيه توزيع جوائز الأوسكار، وأيضًا العام الذي شهد مولد ”سيدني بواتيه“، فقد بدأ أحد مسارح نيويورك في ذلك العام بعرض أول مسرحية تجمع بين البيض والسود في عرض واحد، وهي مسرحية ”شو بوت“ أو ”سفينة العرض“ التي أعيد تمثيلها مرات عديدة، وفي تلك المسرحية ظهر ممثل أسود بجانب ممثلة بيضاء تغيرت شخصياتهما من عرض لآخر، ولكن كل من أدى الدور لم يجرؤ على تقبيل الممثلة البيضاء، ولا حتى على جبينها لأن تقبيل الرجل الأسود لامرأة بيضاء كان يمثل ـ بمقاييس ذلك الوقت ـ جريمة اجتماعية غير مقبولة، بل إن الجمع بين ممثل أسود وممثلة بيضاء في مسرحية واحدة كان زلزالاً كبيرًا ـ وفقًا لتلك المقاييس ـ.
وبعد أربعين سنة من عرض تلك المسرحية، وعلى وجه التحديد في سنة 1967 جاء فيلم ”خمّن من سيأتي إلى العشاء الليلة؟“ الذي تحول إلى مسرحية فيماً بعد، وجمع الممثل ”سيدني بواتيه“ مع امرأة بيضاء فخرج ”بواتيه“ عن النص، أو هكذا فهم المتفرجون عندما شاهدوه يطبع قبلة ساخنة على خد الممثلة البيضاء، وذلك بالتزامن مع تصاعد سخونة حركة التحرر ضد التمييز في الستينيات التي قادها زعماء سود من بينهم ”مارتن لوثر كينج“، ودعاة الحقوق المدنية الآخرون.
حاز فيلم ”خمّن من سيأتي إلى العشاء؟“ جوائز متعددة واعتبر في وقته ثورة في موقف الأفلام من التفرقة العنصرية ضد السود، لأنه يناقش إمكانية الزواج بين رجل أسود وامرأة بيضاء، ويقدم القضية بشكل طريف، حيث ينتظر الآب والأم ابنتهما وخطيبها ويعدان العدة لهذا الحدث، إلى أن يفاجأ الأبوان أن الخطيب المفترض شاب أسود ”بواتيه“وهم أسرة من البيض المتشددين، فيرفض الأب هذه الزيجة ويحاول أن يقف دون إتمامها.
وفيلم ”خمّن من سيأتي إلى العشاء“؟ كان من أنجح أفلام ”بواتيه“، لكنه لم يحصل فيه على جائزة ”أوسكار“ بل حصل بعده على المزيد من الإعجاب بين الأمريكيين الأفارقة والأقليات الأخرى، حيث كانت شخصية”بواتيه“ تجذب دعاة التحرر لما كان يتمتع به من شخصية قوية وثورية، وقدرة وكاريزما، بل إنه شارك ”مارتن لوثر كينج“ مسيرته الشهيرة في واشنطن، وألقى خطابًا أمام الجماهير في نفس اليوم الذي ألقى فيه ”كينج“ خطابه مفصحًا فيه عن حلمه بمجتمع خال من العنصرية.
أتيحت الفرصة لـ”سيدني بواتيه“ وهو في السادسة عشرة أن ينتقل إلى نيويورك، حيث وجد هناك عملاً في غسل الصحون بأحد المطاعم التابعة لمسرح من مسارح نيويورك، وعانى صعوبات معيشية في نيويورك كما تعرض للطرد من المنزل الذي كان يسكنه بسبب عجزه عن دفع الإيجار، واعتقلته الشرطة لذات السبب.
ثم تطور عمله إلى فراش في المسرح ذاته التابع للأمريكيين الزنوج، حيث كان يتولى تنظيف قاعات المسرح في نيويورك قبل دخول المتفرجين، وكان يتسنى له أثناء أداء عمله مشاهدة الممثلين وهم يتمرنون على أداء أدوارهم فتلقى بعيون المشاهد الثاقبة أول دروسه في التمثيل من خلال ملاحظته للممثلين، لكنه لم يكتف بذلك، بل قرر في وقت لاحق أن يتنازل عن جزء من أجره في التنظيف مقابل أن يسمح له القائمون على المسرح بتلقي دروس حقيقية في التمثيل، وكانت هذه الخطوة مفصلية في حياته، إذ سرعان ما أثبت أن لديه موهبة في تقليد الحركات والأصوات، وأُسند إليه دور بسيط في مسرحية عنوانها ”أيام في شبابنا”.
وعندما غاب أحد الممثلين الرئيسيين في المسرحية ذاتها لظرف طارئ في إحدى الليالي، لم يجد القائمون على المسرح شخصًا قادرًا على أداء دوره سوى ”بواتيه“، وهو الأمر الذي أتاح للممثل الصاعد الفرصة لصقل مواهبه، وجاءت أدوار أخرى بعضها صغير وبعضها أكبر حجمًا في مسرحيات أخرى، إلا أن الفرصة الأكثر أهمية أتت إليه عام 1950 ليلتحق بعالم التمثيل السينمائي هذه المرة، ففي ذلك العام لعب ”بواتيه“دورًا مهمًا في فيلم”لا مجال للخروج“، وهو من أوائل أفلام العنف التي تحكي قصة من قصص الكراهية العنصرية .
جعله هذا الفيلم بطلاً ليس بين الممثلين فقط، ولكن بين مجتمع الأمريكيين السود كليًا وصنع له أيضًا شعبية في جزر البهاما التي تعود جذوره إليها، وبسبب هذا الفيلم ظهرت احتجاجات في جزر البهاما، لأن الحكومة التابعة للاستعمار البريطاني هناك حاولت منع الفيلم، الأمر الذي توالت بعده الأحداث بتشكيل دعاة التحرر لحزب سياسي تمكن في النهاية من إطاحة الحكم البريطاني.
وطوال عقد الخمسينات من القرن الماضي استمر”بواتيه“ في أداء أكثر الأدوار إثارة للجدل، في ذلك الوقت، وتعامل في أفلامه مع قضايا حساسة جدًا، أهمها المساواة العرقية، وتناول في أفلامه التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وكأنه يريد أن يتحدث عما يجري في أمريكا نفسها وليس في”جوهانسبرج“، كما تناول بعد ذلك قضايا الأمريكيين السود داخل الولايات المتحدة بعد أن تفاقمت مشكلاتهم وتصاعدت حركة التحرر بينهم.
في عام 1959 عاد مرة أخرى إلى خشبة المسرح في شارع ”برودواي“ بنيويورك، في مسرحية تروي قصة حياة أسرة أمريكية سوداء، لكنه لم يترك السينما، بل استمر فيها مشاركًا في أفلام صنعت له شهرة كبيرة في هوليوود.
من أبرز الأدوار التي قام بها في الستينات من القرن الماضي، دور محقق سري أسود قادم من الشمال، حاول فك لغز جريمة قتل وقعت في إحدى ولايات الجنوب، لكنه واجه أثناء عمله مشكلة التفرقة العنصرية وعدم المساواة، ونظرات الشك والريبة بين مسئولي الجنوب .
في 28 أغسطس 1963 كان ”بواتيه“واحدًا من بين أكثر من ربع مليون شخص تجمعوا قرب نصب ”لنكولن“التذكاري بواشنطن للمطالبة بـ”الحرية والمساواة“، وشملت قائمة الخطباء”متحدثين“ من كل قطاع للمجتمع، بينهم زعماء عماليون مثل ”والتر روثر“، ورجال دين، وكان النجم الأسود ”سيدني بواتيه“ من بين أبرز المتحدثين، وأعطي كل متحدث خمس عشرة دقيقة.
بما أن ”بواتيه“ كان أول ممثل يتناول مشكلة العزل العنصري في جنوب إفريقيا في الخمسينات، فقد لعب مرة أخرى أهم الأدوار في حياته وهو دور”نيلسون مانديلا“، وذلك عام 1997 في فيلم وثائقي حاز إعجاب العالم، وما من شك أن من شاهد الفيلم قد صعب عليه التفريق بين شخصية الرجلين، إذ إن بواتيه جسد شخصية”مانديلا“وكأنه هو بالفعل، فقضيتهما واحدة، وسنهما متقاربة، ومشاعرهما أيضًا متقاربة.
حصل”بواتيه“ في 2002 على جائزة خاصة تكريمًا لمسيرته الفنية على الشاشة الفضية، كما أنه حظي باحترام واسع ليس في أمريكا وحدها، بل على نطاق العالم، وقد بادرت فرنسا بتكريمه أثناء مشاركته في مهرجان”كان“ السينمائي 2006 في دورته التاسعة والخمسين، لإسهاماته التي كسرت الحواجز العنصرية أمام الممثلين السود في عاصمة السينما هوليوود. وقام وزير الثقافة الفرنسي بتقليد ”بواتيه“ وسام الفنون برتبة فارس، وخاطبه قائلا ”إنك يا بواتيه بطل المساواة بين الرجال”؟
وفي حفل التكريم، شكر ”بواتيه“ والديه عاملي الحقول في البهاما، على روح الصدق والكرامة والحنان التي اكتسبها منهما، كذلك شكر المخرجين الذين كسروا التقليد السائد في بداية انطلاقته السينمائية وقاموا بتوظيفه، واصفًا إياهم بـ“,”الرجال الذين اختاروا تغيير النمط السائد، لأنه غير ديمقراطي، وغير أمريكي وغير إنساني”.
يشار إلى أن عدد زوار المهرجان بلغ أثناء تكريم ”بواتيه“ أكثر من 30 ألفًا، منهم 5 آلاف صحفي و10 آلاف مشارك، وارتفع عدد سكان مدينة ”كان“ أيام المهرجان من 70 ألف نسمة إلى 200 ألف نسمة، وعندما جرى تكريم الممثل ”سيدني بواتيه“ ظلت القاعة تدوي له بالتصفيق طويلاً إعجابًا وتقديرًا لمشواره الفني الحافل.
وكانت هناك ملاحظة جديرة بالتأمل، إذ إنه عندما انتهى الحفل صعد عمال النظافة والفراشون إلى المسرح فنظر إليهم ”بواتيه“ مبتسمًا، وهم يفكون الديكورات وينظفون الأرض بالمكانس اليدوية والكهربائية، ويبدو أنه تذكر حياته الماضية عندما كان واحدًا من هؤلاء في بداية عهده بخشبة المسرح في فترة ما قبل التمثيل.
شارك ”بواتيه“ في المهرجان بأفلام عدة، ومن الأفلام التي يتذكرها محبوه، فيلمه ” To Sir With Love “الذي أجاد فيه تجسيد شخصية أستاذ مدرسة عام 1967، حيث كان الرجل عملاقًا على الشاشة، وطغت شخصيته على كل الشخصيات الأخرى بسبب إتقان أداء دور المدرس، الذي انتشل مجموعة من الطلبة والطالبات اللامبالين من حافة الهاوية إلى مواطنين صالحين وجادين في طلب العلم، كما عمل على تشجيعهم وإبعادهم عن سلوكيات احتقار المعلم والإساءة إليه.
بعيدًا عن الشخصيات المتنوعة التي لعبها بواتيه“في حياته المهنية، فإنه أيضًا على المستوى الشخصي متعدد الجنسيات، إذ إنه مواطن في جزر البهاما بحكم الجذور، وهو أمريكي الجنسية بحكم شهادة الميلاد، وهو كذلك بريطاني بحكم انتمائه لمستعمرة بريطانية، وكان قد تم تنصيبه عام 1974 ”كفارس“ وهو التعيين الذي يخوّله حمل لقب ”سير“، ولكنه رفض حمل اللقب.
وفي مقابل رفضه لحمل لقب ”سير“، فإنه لم يمانع أن يعين في 1997 سفيرًا غير مقيم، وممثلاً للبهاما في اليابان، وكذلك سفيرًا للبهاما في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ”اليونسكو”، ولكنه في الولايات المتحدة، يمارس نشاطًا سياسيًا واجتماعيًا بصورة دائمة ويتنقل بين الولايات، ويزور الكليات والجامعات متفقدًا الطلبة البيض والسود على حد سواء .
واختير ”بواتيه“ في أتلانتا بولاية جورجيا كواحد من بين 13 أمريكيًا ”سود“، كانت لهم بصمات مؤثرة واضحة على مجتمع الأمريكيين من أصول إفريقية، وذلك اعترافًا بالأدوار الحقيقية التي قام بها في حياته وليس أدواره التمثيلية فقط، حيث كرمه أوباما ضمن 50 شخصية قائلاً ”هؤلاء الرجال والنساء المهيبون يأتون من جميع الأوساط، لكنهم يتشاطرون سمة واحدة هي أن كل واحد منهم كان عامل تغيير، وكل منهم تأمل عالمًا ناقصًا والتزم بتحسينه عبر مواجهة مصاعب جمة على امتداد مشوار حياته”.