فيلم C’mon C’mon.. أطروحة استثنائية عن مستقبل الأطفال ومستقبلنا
«سينماتوغراف» ـ محمد صبحي
في فيلم “مستقبل“، وهو وثائقي إيطالي عُرض للمرة الأولى في العام 2021 ضمن برنامج “نصف شهر المخرجين” بمهرجان “كان” السينمائي، يسافر ثلاثة سينمائيين في أنحاء إيطاليا لسؤال المراهقين كيف يرون أنفسهم في المستقبل، وما الذي يمكن أن يحدث في حياتهم. كانت الإجابات انتقائية: بعضها محسوب ومهني للغاية، والبعض الآخر غريب وخارج عن المألوف. وفيما لم يكن صانعو الفيلم جزءاً من الحبكة، يمكن للمرء تخيُّل أن تجربة التواصل والتحدث مع الأطفال حول مستقبلهم، مكّنتهم وسمحت لهم برؤية شيء عن أنفسهم. يحدث شيء من هذا القبيل في“C’mon C’mon”، الفيلم الجميل والساحر والحزين أيضاً للمخرج مايك ميلز، حيث يلعب واكين فينيكس دور جوني، صحافي إذاعي من نيويورك يسافر حول الولايات المتحدة ويتحدث إلى أطفال من مختلف الأعمار والأجناس والخبرات والطبقات الاجتماعية، ليسألهم، من بين أمور أخرى، كيف يتخيّلون مستقبلهم. والمفارقة في هذه الحالة هي أنه، وهو في أواخر الأربعينيات من عمره، ليست لديه صورة واضحة عن نفسه.
جوني – الذي بلا أبناء، سيخبرنا لاحقاً بتجربته الرومانسية المنتهية بشكل سيئ – لا يبدو أنه “يتعلم” الكثير من هذه المحادثات. على العكس، تشير مشيته الحزينة و”السريعة” إلى رجل مكتئب قليلاً يتصرّف تقريباً من وضع الطيار الآلي، خاصة في عمله. وفي دراما جيّدة كما يدّعي هذا الفيلم، سيتعيّن عليها إيجاد دافع محرّك ومطوِّر للأحداث. أخته فيف (غابي هوفمان، الرائعة والبارزة حتى لو اختصر وجود شخصيتها عبر الهاتف غالباً)، تقيم في كاليفورنيا وتربطه بها علاقة متوترة إلى حد ما، فهما لم يلتقيا منذ عام كامل، بعد وفاة والدتهما. تخبره أن عليها السفر إلى أوكلاند لتولي بعض الأعمال، طالبة منه البقاء في منزلها بضعة أيام، لرعاية ابنها الصغير جيسي (وودي نورمان). فيقبل جوني ويسافر بكل سرور إلى لوس أنجلوس.
عند وصوله، يمكن للمرء رؤية الوضع المعقَّد للغاية. يتعيّن على فيف السفر لمساعدة زوجها بول (سكوت ماكنيري)، الذي يبدو أنه يمرّ بنوبة جنون ويتصرَّف بشكل لا يمكن السيطرة عليه. أما الصغير جيسي، الذي لم يره جوني منذ فترة طويلة، فهو مخلوق غريب وفريد نسبياً يبلغ من العمر تسع سنوات. ذكي جداً وثرثار، فصيح وفي الوقت نفسه غريب في أفكاره ومراجعه، يعيش كل ذلك الوضع العائلي المعقَّد بطريقة شخصية للغاية، لدرجة أن لديه لعبة متكررة يتخيّل فيها أنه يتيم يقيم في دار للأيتام، إلى جانب بعض الانفجارات والسلوكيات التي يتعذر حلّها في بعض الأحيان.
يعتقد جوني أنه سيكون قادراً على التعامل معه، لكن الأمر لن يكون كذلك تماماً. في مقلب آخر، وكما هو متوقع، تستغرق فيف في رعاية زوجها المضطرب وقتًا أطول مما اعتقدت. من ناحية أخرى، يجب على الرجل العودة إلى العمل، لكنه في الوقت ذاته لا يمكنه فعل ذلك مضطراً للاعتناء بالصبي. لكن، بشكل أساسي، تكمن المشكلة في تعقيد جيسي ونبشه الثرثار الفضولي، بتحدّيه حدود جوني وصبره، إذ يطلق مخاوفه، ويعوّم تاريخه الشخصي والعائلي، ويربكه عاطفياً. يعتقد الأخير أحياناً أن رفقة الصغير هي أفضل شيء يمكن أن يحدث له، وفي أحيان أخرى، يكون مقتنعًا بأن هذا أسوأ وضع مرّ به. سيتسارع كل شيء حتى لا يكون لدى جوني خيار سوى استئناف جولاته ومقابلاته، ويأخذ الصبي في جولة عبر الولايات المتحدة.
هذه هي المغامرة التي يرويها ميلز في 110 دقيقة بسيطة إنما مؤثرة ومتينة عاطفياً. صوِّر “C’mon C’mon” بالأبيض والأسود بكاميرا الأيرلندي روبي ريان (وهو شريك معتاد لصانعة الأفلام البريطانية أندريا أرنولد) في مواقع حضرية في ديترويت ونيويورك ولوس أنجلوس ونيو أورلينز، ويجمع الفيلم قصة هذا “الثنائي غير المتطابق” المكون من خال وابن أخته يتعاملان مع مشاكل عملية وشخصية من خلال فيلم وثائقي ينبثق من المقابلات التي أجراها جوني لصالح برنامجه الإذاعي. يرافقه جيسي في العديد من هذه الجولات (يحمل معدات الصوت سعيداً بالتقاط الجوّ والمحيط)، لكن علاقتهما تصبح متوترة ومجهِدة، وفي بعض الأحيان إشكالية.
بالأداء الطبيعي جداً للممثل الصغير وودي نورمان (وهو بريطاني، لذا فإن أولئك الذين يتخيلون أن الطفل لا يمثّل على الإطلاق ومثل هذا الكلام، هم بالتأكيد قصار نظر)، جيسي هو واحد من هؤلاء الأطفال الذين يمكنهم السحر وإثارة الإعجاب لمدة دقيقة واحدة ثم يستحيل الأمر معكوساً في كل مرة تالية. بلغة مصقولة وسلوك يجعلنا نفترض أنه أكبر سناً مما هو عليه بالفعل، ورغم عدم إتيان الفيلم على ذكر الأمر، لكنه يعطي انطباعاً بأن جوني يعتقد أنه ربما ورث حالة والده (أو حالة جدته، التي عانت في نهاية حياتها من الخَرَف)، في حين أنه في الواقع مجرد طفل يظهّر أو ربما يواري الوضع المضطرب الذي تمرّ به عائلته عبر إفراطه الحركي وقراراته الفضولية.
لكن المحور هنا هو جوني (فينيكس أكثر تقييداً وربما أكثر فاعلية من بعض عروضه الجامحة الأخرى)، الذي يجب أن يتعلَّم من تلك التجربة أن الأطفال هم أكثر من حصيلة العبارات التي ينتقيها مَن يقابلهم وأن، بطريقة ما، اعتناءه بابن أخته في وقت مثل هذا ليس معقداً فحسب، بل يبرز أجزاء منه يكرهها أو يقمعها. النزوات، المعارك، اللحظات المحطِّمة عندما يغيب عن عينيه، ذكاء الصبي للحصول على ما يريد والطريقة التي يبذل فيها جوني قصارى جهده لتجنب الغضب منه أو الصراخ عليه (يعرف أنه ليس مضطراً إلى ذلك ولكن في بعض الأحيان لا يمكنه احتواء انزعاجه).. كلّها تصنع هذه الدراما المكونة من شخصيتين والتي تحتوي شيئاً من فيلم “قمر ورقي” (1973) للراحل مؤخراً بيتر بوغدانوفيتش، لكن بالمرور عبر فيلتر مستقل ومغاير في حساسيته ومقاربته، مثل أفلام ميلز السابقة أو أفلام سينمائيين مثل ميراندا جولي، التي – ليس من قبيل الصدفة – هي زوجته في الواقع.
يعمل “C’mon C’mon” أيضاً كأطروحة، حيث تقرأ الشخصيات أحيانًا فقرات كاملة بصوتٍ مسموع من كتب أو مقالات أو قصائد تظهر نصوصها مكتوبة على الشاشة (مثلما في هذا البيان للمخرجة الوثائقية كيرستن جونستون، والذي يكشف بشكل كبير عن روح الفيلم، أو مثلما في قصة الأطقال تلك للتعليق على بعض موضوعاته). بين هذه النصوص والمقابلات، يبني ميلز صورة موازية ذكية لجيل من الأطفال والمراهقين يمرّون بمراحل معقّدة من حياتهم ويحاولون التعامل بأفضل ما يمكنهم مع مشاعرهم المتضاربة. صحيح أنه، أحياناً، يكون هذا البناء ثميناً إلى حدّ اهتمام الفيلم أكثر من اللازم بكونه “دقيقاً” ورقيقاً طوال الوقت. لكنه يتمكّن من تجاوز تلك الشكوك بفضل فاعليته العاطفية المتزايدة وما تثيره وتطلقه من البساطة والحياة اليومية المتدفقة بطوله، بصورة تجعله عالمياً وقابلاً للهضم والاستيعاب في سياقات جغرافية مختلفة تماماً.
مايك ميلز سينمائي يملك طريقاً ومساراً محدّدان للغاية، حتى لتبدو أفلامه قادمة من داخله وقلبه وعقله الباطن، نحو جمهور مستعد لترك أفكاره المسبقة على الباب والتفاوض مع عمله بشروطٍ تخصّه. بعد “مبتدئون” (2010)، عن والده، و”نساء القرن العشرين”، عن والدته؛ يأتي C’mon C’mon بإيحاء من علاقة ميلز بأطفاله. هذا ليس فيلماً عن العلاقة بين الأخوال/الاعمام وأبناء الأخت/الاخّ. ربما لا يتعلّق الأمر، حتى، بالبالغين والأطفال. إنه فيلم، بطريقته الخاصة، عن الخوف من مرور الوقت، والشعور بأن المستقبل دائماً غير مؤكد ولا يمكن التنبؤ به وأن لا طريقة للسيطرة عليه. عندما يخبر جوني، جيسي أنه عندما يكبر لن يتذكَّر أي شيء عما عاشاه معاً، يتأثر الصبي كثيراً. جوني كان هناك – طفلاً – ويعتقد أنه يتحدث عن تجربة. لكن صحيح أيضاً أن المستقبل يُنسج من الحاضر المعاش والخبرات الفردية والمتمايزة. وربما تلك المغامرات مع ابن أخته، المسلّية أحياناً والمعقّدة في كثير من الأحيان الأخرى، ستعمل على إعادة توجيه مسار حياته.