«العظام وكل شيء».. عن الحب والأسرار التي نخفيها ونكبتها
فينيسيا ـ «سينماتوغراف» : نسرين سيد أحمد
الجوع، وربما الظمأ، هما الدافعان الرئيسيان في فيلم «العظام وكل شيء» للمخرج الإيطالي لوكا غاوادانينو، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا. لكن الجوع والظمأ في الفيلم ليسا كما نعرفهما، وهما أيضاً يتجاوزان الرغبة الملحة في الطعام والشراب، ليشملا تعطشنا إلى الحب والانتماء، وبحثنا عمن يفهمنا ويتقبلنا على عيوبنا وعلاتنا.
«العظام وكل شيء» فيلم رعب، يثير فينا الكثير من الخوف والتقزز، حتى إننا قد نجفل أو قد نشيح بأنظارنا بعيداً عن الشاشة في بعض المشاهد، لكنه أيضاً قصة بحث عن الذات ومحاولة لفهمها، وهو كذلك قصة حب تحمل من الرومانسية الكثير، وربما يكمن نجاح الفيلم في إقناعنا بقصة الحب وخلق التعاطف بيننا وبين البطلين الشابين، على الرغم من ذلك الرعب.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي مارين (تايلور راسل) الصبية التي يقارب عمرها الـ 18 عاماً. في المدرسة عادة ما تكون صامتة خجولة، مبتعدة عن الزميلات والزملاء، وتعيش على أطراف المدينة في بيت بسيط مع والد نخال للوهلة الأولى أنه صارم، ولا يسمح لابنته بأن تكوّن صداقات، أو أن تتزاور مع الزميلات. ذات يوم تتخطى مارين رقابة والدها، وتغادر المنزل ليلا لتمضي بعض الوقت مع زميلاتها في الصف في منزل إحداهن. وفي جلسة تتبادل فيها الفتيات أدوات الزينة، على عادة المراهقات، يتكشف لنا السر الذي تحمله مارين. فبينما تريها صديقتها طلاء أظافرها الجديد، لا تقاوم مارين نهمها وجوعها المتزايد وتلتهم إصبع زميلتها. يتفجر الدم وتغطي الدماء ثياب مارين، التي نكتشف أنها من أكلة لحوم البشر، وأنها تقاوم نهمها حتى لا ينكشف سرها.
في عيد ميلادها الثامن عشر، يهجرها والدها، تاركا لها بعض المال وشهادة ميلاد تحمل اسم أمها التي لم ترها قط. تبدأ مارين إثر ذلك رحلة طويلة بحثا عن أمها، وبحثا عن فهم الذات، في محاولة لفهم لم ولدت بهذا النهم للحم البشر. تقابل مارين في رحلتها سولي (مارك ريلانس في أداء مميز يجمد الدم في الأوصال) الذي يتعرف على أن مارين من آكلي لحوم البشر، لأنه يشم في رائحتها هذا الجوع للحم البشري، ويعلمها كيف تشم رائحة الآكلين الآخرين. تتعلم مارين أن الهدف الأكبر للكثير من أكلة لحوم البشر، والرحلة التي يوثقون فيها انتماءهم لعالم أكلة لحوم البشر، هو أن يلتهموا إنساناً بأكمله مشتملاً على «العظام وكل شيء».
لكن هذه العبارة تكتسب معنى آخر في حياة مارين، فهي بحاجة إلى من يحبها برمتها، يحبها بنهمها للحم البشر، ويفهم حاجتها لأن يكون لها بيت وسكن وحافظ للسر. في رحلتها تلتقي مارين بالوسيم النحيل المعطوب روحا لي (تيموثي شالاميت)، الذي اكتشفه غوادانينو في فيلمه «نادني باسمك» لينطلق بعدها في شهرة واسعة). لي من «الآكلين» كما يطلق آكلو لحوم البشر على أنفسهم، وله ماض معذب مؤلم كماضي مارين. ومعا ينطلقان في رحلة يحاولان أن يجدا فيها الحب والملاذ في بعضهما بعضا بعد أن خذلهما العالم. ولوهلة يظن الحبيبان الشابان أن العالم وهبهما السكينة، لكن الأقدار تأبى ذلك.
نجد في شخصية مارين وفي الفيلم أصداء من فيلم «نيء» (2016) لجوليا دكورنو، الذي تكتشف بطلته الشابة الطالبة الجامعية النابهة أنها من أكلة لحوم البشر. ونكتشف أن هذا النهم للحوم البشر هو نهم منها للحياة، وكل ما فيها من رغبات، وعن رغبتها لاكتشاف الجسد والجنس. كما أن الفيلم يحمل بعض أصداء من فيلم «باد لاندز» (1973) لترنس ماليك، الذي ينطلق بطلاه الشابان في رحلة يسفكان فيها الكثير من الدماء، لكننا نتفهم دوافعهما لذلك.
«العظام وكل شيء» ليس فقط عن محاولة اكتشاف الذات والعثور على الحب. هو أيضاً عن الأسرار التي نخفيها، عن ميولنا ونوازعنا التي قد نخفيها ونكبتها خوفاً من المجتمع. هو كذلك عن ذلك الجوع، أيا كان نوعه، الذي يستنفدنا ويجهدنا ويذهب بنا في طرق ومسارات ما كنا نعتقد أننا سنسلكها يوماً قط. يقدم غوادانينو بطلين نتعاطف معهما ومع رحلتهما ومع سعيهما لإيجاد ملاذ لهما.