مشاهدات مهرجان «كليرمون فيران» (2)
«سينماتوغراف»: أحمد شوقي ـ كليرمون فيران
على مدار الساعة تتواصل المشاهدات في مهرجان الأفلام القصيرة الأهم في العالم، وبالرغم من الانخفاض الملحوظ في مستوى أفلام المسابقة الدولية للمهرجان، إلا أن هناك عدد آخر من الأفلام المهمة التي نلقي عليها الضوء في هذه المجموعة الثانية والأخيرة من مشاهدات المهرجان.
بو لولاد (تونس)
العنوان يعني باللهجة التونسية «أبو الأولاد»، وترجمه المخرج للفرنسية «أب». هذا باختصار أحد فيلمين قصيرين يمكن اعتبارهما أهم ما عُرض في المسابقة الدولية من وجهة نظر كاتب هذه السطور. فمع الفيلم الروسي «تفتيش» (تناولناه في مجموعة المشاهدات الأولى)، يمثل فيلم المخرج لطفي عاشور نموذجا لاكتمال عناصر جودة الصناعة والإمتاع والقيمة الفكرية، فهذه عناصر نادرا ما تجتمع في فيلم قصير، وغالبا ما يأتي تميز أي فيلم قصير من امتلاكه عنصرين من الثلاثة، لكن في الفيلمين المذكورين، ستجد علامات التميز الثلاثة معا.
أفضل ما في الفيلم هو تمكن المخرج من تحويل قصة ذات طبيعة ميلودرامية واضحة ـ سائق سيارة أجرة يوصل امرأة لمستشفى تلد فيها فيكتشف لاحقا أنها قد وضعت اسمه كأب لوليدهاـ إلى فيلم ممتع وخفيف الظل بصورة تجعل الحدث الميلودرامي يبدو أبعد ما يكون عن هذا على الشاشة، مع الوصول في النهاية إلى استنتاج إنساني نبيل، بعيد عن كل التصورات المسبقة التي يمكن توقعها من حكاية كهذه.
ومن بين المشاركة العربية المحدودة جدا في المسابقة (أربعة أفلام من أصل 79 فيلما)، يعد الفيلم التونسي أفضلها على كل المستويات.
شأن عائلي (إسبانيا)
نموذج صالح لإثبات ما قلناه عن الفيلم الأول، فهذا فيلم ناجح وذو شعبية كبيرة بين حاضري المهرجان، يكاد يكون المرشح الأكبر لجائزة الجمهور، ونجاحه يعتمد على عنصرين فقط من الثلاثة عناصر: جودة الصنع والإمتاع. هذا فيلم أشبه بنكتة ذكية، عن شاب يوقظه والداه ليلا ليصارحاه بحقائق مخيفة عن ميلاده وطفولته وعلاقتهما به، ليكتشف أنه لم يكن يعرف شيئا عن حقيقة ماضيه ومن يعيش معهم في نفس المنزل.
الفيلم لا يدعي أي قيمة أكبر من تقديم حكاية جذابة وممتعة مصنوعة بشكل متميز، وهو هدف مشروع ومقبول حققه مخرجو الفيلم الثلاثة جيرارد كوينتو ودافيد توريس وستيف سولير بنجاح في الفيلم (ومشاركة ثلاثة مخرجين في صناع فيلم كوميدي مدته تسع دقائق أمر يدعو للدهشة بغض النظر عن كل شيء)، ليستمتع الجمهور فعلا بالمفاجآت المتتالية التي يسمعها البطل من والديه. لكنه يظل «نكتة» بسبب انتهاءه بشكل أقرب للإيفيه منه للاستنتاج النهائي لفيلم روائي قصير، وهذا مجددا أمر لا يعيب الفيلم، ولا يقلل من نجاحه والاستمتاع به، لكنه يوضح الفارق بين عمل مثله وآخر مثل الفيلمين التونسي والروسي.
اشتريته من زاراتوزين (إسبانيا)
فيلم إسباني آخر متميز عرضه المهرجان (الأفلام الإسبانية الثلاثة المشاركة عموما أفلام جيدة جدا)، هذه المرة عن ضعف الثقة في النفس وغياب القدرة على المواجهة. البطلة «ميرين» لا تستطيع أبدا أن تطالب بحقها، حتى عندما تقف في صف لتنتظر دورها ويأتي من يقطع الصف قبلها، لا تفعل أكثر من السكوت وتركه ينهي طلبه ويرحل. نوع من الضعف يعاني منه البعض بصورة تجعل في حالة سخط دائم على الذات، تتجدد في كل مرة يتكرر العجز عن المواجهة، وتظهر الردود الحكيمة والمفحمة في الذهن بعد انتهاء الموقف في وضع الهزيمة.
قدرة «ميرين» على مواجهة ضعفها تتعرض لاختبار عسير: امرأة تسرق قميصا من متجرها بجرأة، وتراها بشكل يومي فتحدثها بدون ذرة خجل أو ضعف. المرأة هي النموذج العكسي تماما للبطلة، تستغل ثقتها في نفي الخطأ عن نفسها، بينما تسجن صاحبة الحق في سجن ضعفها وخوفها من المواجهة. مرة تلو الأخرى تكاد «ميرين» تصل للحافة، بينما يتلاعب المخرج آيتور أريجي بمهارة بمشاعر الجمهور، الذي ينتظر في كل مرة أن تنتصر ميرين على ذاتها فتفشل، حتى يأتي مشهد المواجهة الأخيرة المخطط له بعناية، بحيث تتم المواجهة وسط احتفال كرنفالي يجعل المطان أشبه بحلبة نزال عبثية تخوض فيها البطلة معركتها الأخيرة ضد اللصة وضد نفسها قبل ذلك.
مراهقة مثيرة قذرة (السويد)
من السويد يأتي أطول أفلام المسابقة، 39 دقيقة هي زمن فيلم المخرج ينس أسور تجعله أقرب للفيلم الروائي الطويل منه للقصير، ليس فقط على صعيد مدة العرض ولكن على مستوى الإيقاع وبناء الشخصيات والأحداث، هذا باختصار فيلم طويل ينقصه الفصل الأول. فيبدأ من نقطة انطلاق مثيرة للحيرة خاصة وأن ما تطرحه من تساؤلات حول الشخصيتين الرئيسيتين لا تتم الإجابة عليها قط خلال الفيلم.
المنطلق هو مقابلة بين رجل عجوز وفتاة مراهقة، نعرف بعد دقائق أنه رجل أعمال ثري يعيش حياة زوجية ومهنية مستقرة، وأنها عاهرة تحت السن القانوني تعمل بشكل غير شرعي وباتفاقات سرية. المشكلة هي عدم اتضاح السبب الذي دفع الفتاة لاتخاذ هذا الخيار، أمر تركه المخرج مجهلا تماما، فافترضنا أن سببه هو الرغبة في التعميم، يريد عموما أن يدين التصرف مهما كان دافعه، وهذا مقبول منطقا وسردا. لكن مالا يمكن قبوله هو تجهيل دوافع البطل كذلك، فمن الممكن لرجل مثله أن يرغب في ممارسة نزوة مع فتاة في عمر أحفاده، لكن ما الذي يدفعه أن يتحول لقواد خاص بها، يأخذها من مكان لآخر لتقابل عملاء في مثل سنه، بل ويجبرها على ذلك عندما ترغب هي في الابتعاد.
هذا هو السؤال الضخم الذي يجعل الفيلم عسير الهضم، أو يجعله بحاجة لفصل درامي إضافي يحوله لفيلم طويل مكتمل السرد والهدف. أما صورته الحالية وإن كانت تظهر نضج إخراجي كبير في صناعة الجزء المقدم من الحكاية، لكنها تفتقد للشكل الكلي للإشباع، خاصة وأنه فيلم يخرج مبكرا جدا من حيز التأثير الموجز المرتبط بالفيلم القصير، ويمهد ذهن المشاهد تلقائيا لتلقي ما هو أكبر وأكثر تعقيدا.
الأشقاء سميت (هولندا، بلجيكا)
كوميديا خفيفة الظل يستلهم مخرجاها فيم جودينز وتوماس بيرتين النموذج البصري المميز لسينما المخرج ويس أندرسون: الألوان الصارخة للعناصر المختلفة من ملابس وديكورات، الشكل والأداء الكاريكاتوري للشخصيات، والسيمترية المسيطرة على تكوين مشاهد الفيلم. نموذج أصبح موضة شائعة في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال موضة يمكن قبولها في ظل تقديمها لمشاهد ممتعة بصريا بغض النظر عن محتواها ومستواها.
حكاية الفيلم بسيطة، عن ثلاثة أشقاء في منتصف العمر، يعيشون معا، يفعلون كل شيء معا، يرتدون ملابس متشابهة، يتحركون بشكل ميكانيكي متفق عليه، في تعاون وتكامل ينتهي فجأة عندما تنتقل جارة حسناء لتسكن أمامهم، فيقع أحد الأشقاء في حبها ويقرر أن يغير نظام حياته المحفوظ.
إلى أي مدى يمكن أن تصل رغبة شقيقيه في التمسك بوجوده معهم؟ وكيف يخططان ليعيداه لحياته المعتادة بعد أن ذاق متعة الحب؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها الفيلم بطرافة واضحة، صحيح أنه لا يأخذها إلى مستوى أبعد من الحكاية الممتعة بالرغم من امتلاك العمل للفرصة، لكنه فيلم قريب للقلب، يمكن اعتباره أيضا من المرشحين لجائزة اختيار الجمهور.