جيفري ماكناب يكتب : كبار السن يسيطرون على «كان 2023»
«سينماتوغراف» ـ متابعات
بمجرد إلقاء نظرة على برنامج الفعاليات الرئيسي لمهرجان كان السينمائي الصادر هذا الشهر ستجدون أعمالاً جديدة من جميع أنحاء العالم لمخرجين متقدمين بالسن للغاية لدرجة أنهم يجعلون السياسيين الأميركيين جو بايدن ودونالد ترمب يبدوان شابين بالمقارنة.
كانت السينما تعتبر وسيطاً للشبان، لكن مدير المهرجان تييري فريمو ملأ حدث هذا العام بأفلام لمخرجين شياب لن يبدو حضورهم شاذاً لو رأيناهم يلعبون لعبة دفع الأقراص المفضلة لدى العجائز في نسخة جديدة من فيلم “شرنقة” Cocoon الكوميدي الصادر عام 1985 للمخرج رون هاورد، وتدور أحداثه حول ثلاثة رجال مقيمين في دار للمسنين، وبتكريمه المبالغ فيه لهؤلاء المخرجين المتقدمين في السن يخاطر فيرمو باستنزاف طاقة أكبر وأهم مهرجان في العالم.
مارتن سكورسيزي الموقر الذي يعود إلى المهرجان مع فيلم “قتلة قمر الزهرة” Killers of the Flower Moon بلغ أخيراً عامه الـ 80. المخرج الألماني فيم فيندرز الذي يشارك بالمهرجان بفيلمين جديدين هو في الـ 77 من عمره. كان أحد وجوه السينما الألمانية الجديدة، لكن ذلك حدث في سبعينيات القرن الماضي. المخرج البريطاني كين لوتش، الذي يقدم فيلمه الجديد “البلوط العتيق” The Old Oak، يبدو عنوانه مناسباً بشكل غريب، سيحتفل بعيد ميلاده الـ 87 الشهر المقبل.
المخرج الإيطالي المبجل ماركو بيلوكيو الذي يعود إلى الريفيرا الفرنسية بفيلمه الطويل الـ 25، “مختطَف” Kidnapped، يبلغ من العمر 83 سنة. الفيلم الروائي الجديد للمخرجة الفرنسية المثيرة للجدل كاثرين بريا “الصيف الماضي” Last Summer يدور حول علاقة جنسية بين امرأة في منتصف العمر وابن زوجها المراهق، وبالمناسبة، تبلغ بريا نفسها من العمر 74 سنة. المخرج الياباني المستقل تاكيشي كيتانو، الذي يعد عراب أفلام العصابات اليابانية والذي سيكشف النقاب عن فيلمه الدرامي التاريخي “كوبي” Kubi هو في سن الـ 76. بينما يعود الإسباني فيكتور إيريس مع فيلم “أغلق عينيك” Close Your Eyes وهو بعمر 82 سنة.
يرافق هذه المجموعة السبعينية والثمانينية من المخرجين إلى المهرجان كتيبة من صناع الأفلام الذين هم في الستينيات من العمر، من بينهم تود هاينز، 62 سنة، صاحب فيلم “مايو ديسمبر” May December، من بطولة ناتالي بورتمان وجوليان مور.
إذاً مهرجان هذا العام له طابع سينما فنية شبيهة بجولة عودة غنائية مدفوعة بالحنين إلى الماضي تقوم بها فرقة موسيقى بوب من الثمانينيات. إنه بمثابة عرض لأعمال من أسماء مألوفة لمخرجين صنعوا أفلاماً رائعة في الماضي.
على كل لن نشاهد الأميركي المثير للانقسام وودي آلن، 87 سنة، يتمشى فوق السجادة الحمراء في مهرجان كان. وضع فيرمو حداً واضحاً أمام عرض فيلمه الجديد الناطق بالفرنسية “ضربة حظ” Coup de Chance. أوضح مدير مهرجان كان لمجلة “إندي واير” المختصة بأخبار صناعة السينما: “إذا تم عرض فيلمه في كان، فإن الجدل سيطغى على فيلمه، وسيطغى على الأفلام الأخرى”.
كما لم يتمكن رومان بولانسكي، 89 سنة، وهو مخرج آخر يتمتع بسمعة إشكالية مماثلة، من المشاركة بالمهرجان بأحدث أفلامه “القصر” The Palace، الذي يجمع فريق أبطاله النخبوي بشكل غير متوقع بين جون كليز وميكي رورك. قال فيرمو إنه لم يكن مرشحاً للاختيار، ما يشير إلى أن الفيلم لم يكن جاهزاً في الوقت المناسب، لكن مهرجان كان هذه السنة مليء بالفعل بأفلام لشياطين آخرين قدامى في السينما العالمية.
من جانب، فإن وجود كل هؤلاء المحاربين القدامى هو شهادة على التميز المستمر في عملهم. عندما يحدد واضعو برامج مهرجان كان صناع الأفلام الذين يحبونهم، فإنهم يميلون إلى الاستمرار في دعوتهم مرة تلو أخرى طالما أن أفلامهم بالمستوى المطلوب. أحد الوجوه الدائمة، المخرج البرتغالي الراحل مانويل دي أوليفيرا، كان في عمر 101 عام عندما قدم في المهرجان فيلمه “قضية أنجيليكا الغريبة” The Strange Case of Angelica الصادر عام 2010. بعد ثماني سنوات من وفاته في عام 2015، سيُعرض له فيلم هذا العام أيضاً، إذ سيتم عرض فيلمه الطويل “وادي أبراهام” Abraham Valley الصادر عام 1993 احتفاء بمرور 30 عاماً على إطلاقه.
كلينت إيستوود الآن في التسعينيات من عمره، هو شخص مفضل آخر لدى واضعي برامج مهرجان كان، ويمكن للمرء أن يراهن بسهولة على اختياره ضمن القائمة العام المقبل، بمجرد أن يكمل فيلمه الطويل التالي، وربما الأخير، “المُحلف رقم 2” Juror No 2. وصل ريدلي سكوت، 85 سنة، إلى مرسى مدينة كان مع فيلم السيرة الذاتية الجديد “نابليون” Napoleon من بطولة خواكين فينيكس بدور بونابرت. اتضح أن الفيلم لن يكون ضمن القائمة المختارة، إلا إذا تمت إضافته في وقت لاحق، لكن حتى من دون مشاركته فإن متوسط عمر المخرجين الذين اختارهم المهرجان يرتفع بشكل يتعذر إيقافه.
حقيقة أن مخرجين مثل سكوت وسكورسيزي وبيلوكيو وآلن وإيستوود يمكنهم طرح مشاريع جديدة في دور السينما وعلى منصات البث التدفقي يشير إلى تغيير جذري في طريقة تمويل الأفلام الآن. كان من المستحيل تقريباً على صانعي الأفلام في سنهم الاستمرار في العمل، حيث لن يقدم أحد المال لهم. صناعة الأفلام عمل مرهق ويتطلب جهداً بدنياً ويقلق المنتجون من أن المخرجين لن يمتلكوا ببساطة الطاقة لإتمام العمل بشكل فعال. كذلك، كانوا يثيرون تساؤلات عما إذا كان هؤلاء المخرجون قادرين على جذب جمهور السينما الأصغر الذي يعتمد عليه شباك التذاكر.
تاريخ السينما مليء بقصص الشخصيات التي كان يحتفى بها ذات يوم وتخلت عنها المنظومة عندما كبرت في السن. قدم أورسون ويلز تحفته الفنية “المواطن كين” Citizen Kane الصادر عام 1941عندما كان لا يزال في منتصف العشرينات من عمره، وراحت مكانته في هوليوود تتدهور منذ ذلك الحين، وبحلول نهاية حياته المهنية كان الممولون وشركات الإنتاج مترددين في التعاون معه.
هناك حكايات مؤثرة عدة تروى عن بيلي وايلدر في وقت متأخر من حياته عندما كان يحضر إلى مكتبه كل يوم للعمل على مشاريع لن تؤتي ثمارها أبداً. قال لكاتبة سيرته شارلوت شاندلر “أنت لا تعرفين أنك تقاعدت إلا بعد حدوث ذلك” متحدثاً عن نهايات مسيرته المهنية عندما لم يتمكن من تنفيذ حتى مشروع واحد. كلما حاول المحافظة على وجوده أكثر، كلما شعر أن سمعته تتضاءل. قال متحسراً “يشبه الأمر نعياً منشوراً في نيويورك تايمز. كلما عشت بعد شهرتك بكثير، كلما صار أقصر”.
في الحالات النادرة التي سُمح فيها لمخرجي الأفلام الأكبر سناً بالعودة إلى مواقع التصوير، توجب وجود شخص ما لإعانتهم. عندما كان روبرت ألتمان في أواخر السبعينيات من عمره ويصنع في لندن الفيلم الدرامي “غوسفورد بارك” Gosford Park الذي تدور أحداثه في زمن ماض، كان لديه مخرج أصغر سناً هو ستيفن فريرز، مستعد لتلبية النداء في أي وقت وجاهز لتولي القيادة إذا خذلت المخرج صحته. حدث الشيء نفسه مع المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنتونيوني عندما صنع فيلم “ما وراء الغيوم” Beyond the Clouds الصادر سنة 1995. كان أنطونيوني في الثمانينيات من عمره وقد أصيب بجلطة دماغية قبل سنوات قليلة أثرت على قدرته على الكلام. على كل حال، لم يعط الممولون الضوء الأخضر للفيلم إلا عندما وافق فيم فيندريس على العمل إلى جانبه.
الآن، الشبان هم من لا يوثق به. يشعر الممولون باطمئنان مع المواهب المخضرمة التي يعرفونها أكثر من الوجوه الجديدة. ينطبق هذا على الممثلين والمخرجين على حد سواء. احتفى مهرجان كان العام الماضي بـ توم كروز، البالغ من العمر الآن 60 سنة، مع فيلم “توب غَن: ميفريك” Top Gun: Maverick، ولا يزال يؤدي حركات مجازفة بالدراجات النارية تتحدى الموت من أجل أفلام “مهمة مستحيلة” Mission Impossible الجديدة.
عدد من النجوم الذين من المتوقع أن يثيروا حماسة مصوري المشاهير في كان، يتقدمون بالسن أيضاَ. جوني ديب، الذي يلعب دور لويس الخامس عشر في فيلم “جان دو باري” Jeanne du Barry الذي سيفتتح فعاليات المهرجان، سيبلغ عامه الستين الشهر المقبل. وسيحتفل روبرت دي نيرو، نجم فيلم سكورسيزي بعيد ميلاده الـ 80 في أغسطس. أما مور، بطلة فيلم هاينز، فهي في الـ 62 من عمرها.
سيكون كوينتين تارانتينو حاضراً في كان هذا الشهر كضيف خاص على تظاهرة “أسبوع المخرجين”. هذه هي الفعالية الجانبية التي أنشئت في أواخر الستينيات لتقديم المخرجين الجدد الذين يصنعون أفلاماً راديكالية ومتفردة للغاية أكثر من أن تتحملها المنافسة الرئيسة. لا يستطيع أحد التشكيك في مؤهلات تارانتينو كواحد من أبرز المخرجين المتمردين في السينما المستقلة الأميركية لكنه أيضاً في الستينيات من عمره.
هناك دلالة نابعة من كون معظم المخرجين الذين تجولوا في العالم كثيراً ويحرص المهرجان على إبراز أعمالهم هذا العام قد بلغوا سن رشدهم الفني في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حقبة التطرف والحركات السينمائية الجديدة. لقد ميزوا أنفسهم في مواجهة جيل أقدم وكانوا ميالين إلى أن يكونوا تقدميين سياسياً ومبدعين شكلاً ومتمردين مضموناً، والآن هم أنفسهم قد تقدموا بالسن لكنهم ما زالوا يحاولون صنع الأفلام الجريئة والجدلية والكاسرة للمحرمات ذاتها التي صنعوها في أوج عطائهم.
إذا كانوا في بداية حياتهم المهنية اليوم يحاولون شق طريقهم فكيف سيكون رد فعلهم على رفض الحرس القديم التنحي؟
اشتهر المخرج فرانسوا تروفو (1932-1984) بقوله قبل دورة مهرجان كان لعام 1957 إن “السينما الفرنسية تحتضر بسبب أساطيرها الوهمية”. في ذلك الوقت، كان تروفو صحافياً شاباً صريحاً يحلم بإنتاج أفلامه الخاصة، لكن كما أشار مؤلفا سيرته الذاتية أنطوان دي بيك وسيرج توبيانا، فقد تعرض للصد من نظام كان متحجراً و “يتفاخر بالتعالي على التجديد والشبان”. انتقد تروفو “السينما الأبوية” والمعالجات العدة لأعمال أدبية التي كان ينتجها المخرجون الفرنسيون الأكبر سناً – الذين أسماهم “موظفي تشغيل كاميرات مدنيين” بدلاً من “فنانين حقيقيين”.
كتب بازدراء عن “الانحطاط التدريجي” لمهرجان كان، وصدم المنظمون بشدة من انتقاداته لدرجة أنهم رفضوا الاعتراف به. كان من الواضح على رغم ذلك أن المشاغب الشاب الذي كان لا يزال في أوائل العشرينيات من عمره يحاول ببساطة إبعاد بعض المسنين لإخلاء شيء من المساحة التي كان صناع الأفلام الشبان بأمس الحاجة إليها.
ربما يحتاج كان إلى شخص شبيه بتروفو لإحداث تغيير جذري اليوم، فالمهرجان في خطر واضح وقائم بالتحول إلى ناد لكبار السن.
قد يكون فيلم “قتلة قمر الزهرة” لـ سكورسيزي ممتازاً، لكنه لن يولد أي إثارة قريبة من تلك التي أحدثها فيلمه “سائق التاكسي” Taxi Driver في دورة عام 1976، عندما منحته لجنة تحكيم المهرجان بقيادة الكاتب المسرحي تينيسي ويليامز الذي كره عنف الفيلم ، السعفة الذهبية. أطلق جمهور كان صيحات الاستهجان على الفيلم، لكن ذلك زاد من تأثيره فقط. كان الفيلم يمتلك طاقة منحرفة، ما عكس شبان فريقه الإبداعي.
فيلم “البلوط العتيق” للمخرج لوتش، حول آخر حانة لا تزال صامدة في مجتمع قائم على صناعة التعدين كان مزدهراً ذات مرة ، لا بد من أن يكون مليئاً بالملاحظات اللاذعة حول العرق والطبقية الاجتماعية وعدم المساواة في المملكة المتحدة ما بعد الحقبة الصناعية. هل سيكون له تأثير فيلمه التلفزيوني “كاثي عودي إلى المنزل” Cathy Come Home الصادر عام 1966، الذي أثار أسئلة في البرلمان وبدأ نقاشاً على مستوى البلاد حول التشرد؟ ربما لا، كما قال المخرج بنفسه أخيراً لمجلة “ذا هوليوود ريبورتر” عن تحديات صنع فيلم روائي طويل عندما تكون على أبواب الـ 90 من العمر: “تتدهور قدراتك بالفعل. تختفي ذاكرتك القصيرة، ويصبح بصرك سيئاً جداً، لذا فإن الأمر عويص للغاية “.
لا يسعنا إلا الإعجاب بلوتش والمخرجين الآخرين العتيقين على بقائهم في المنافسة لفترة طويلة، لكن إذا استمر مهرجان كان في تفضيل القديم على الجديد، فسيصبح في غير محله قريباً.
………………………….
نقلاً عن The Independent للناقد السينمائي المعروف جيفري ماكناب