«بنات ألفة» لكوثر بن هنية .. لقمة سائغة لـ«داعش»
كان (فرنسا) ـ نسرين سيد أحمد
في أحد مشاهد فيلم «بنات ألفة» للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته السادسة والسبعين (16 إلى 26 مايو الجاري)، تقول ألفة إن بناتها أكلهن الذئب، ولكننا في رحلتنا مع الفيلم ندرك أن الذئب لم يكن ذئباً واحداً، بل قطيعاً من الذئاب، فقد تكالب المجتمع كله لنهش لحمهن وتحويلهن إلى لقمة سائغة للتطرف ولـ«داعش».
«بنات ألفة» فيلم يجمع بين الوثائقية والروائية التي يستعيض بها أحياناً لعدم وجود الشخصيات المعنية. ألفة حمروني، التي نراها بشخصها، ونراها في صورتها الروائية (هند صبري) هي أم لأربع بنات هما رحمة وغفران، البنتان الكبيرتان اللتان انضمتا إلى «داعش» في مراهقتهما، وآية وتيسير، اللتان تحاولان العيش بصورة طبيعية، إذا تسنى لمن في ظروفهما ذلك.
نرى ألفة الحقيقية، تلتمع عيناها وتغرورقان بالدموع وهي تتحدث عن بناتها وحياتهن، نراها تضحك حين تتذكر بعض اللحظات القليلة من البهجة التي عاشتها سابقاً. ولكننا نرى أيضاً ألفة الأخرى (هند صبري) وذريعة وجودها في الفيلم، أنها تدرس شخصية ألفة لأنها ستؤدي دورها في فيلم تخرجه بن هنية. نرى في ذلك المزج بين ألفة وهند صبري تشتيتا في الانتباه، وانتقاصاً من قدرة الفيلم على التأثير.
البنتان الكبريان غيبهما السجن لانضمامهما لتنظيم الدولة الإسلامية، ولذا قد نتفهم وجود ممثلتين للتعويض عن غيابهما، ولكننا نتساءل حقاً ما الذي يدعو المخرجة لضم هند صبري، على جودة أدائها، إلى الفيلم، على الرغم من الحضور القوي الطاغي والجاذب للغاية لألفة. ربما قد يكون الأمر لضمان فرص أعلى للفيلم للتسويق، فوجود اسم نجمة كبيرة مثل هند صبري قد يضمن انتشاراً وتسويقاً للفيلم.
في حياة ألفة وبناتها نرى كل صور القمع والتنكيل والقهر، التي تتعرض لها المرأة العربية والمسلمة في مجتمعنا الشرقي على يد المجتمع الذكوري والرجال. وما نلحظه في الفيلم هو أن أدوار الرجال جميعاً، سواء كان زوجها ووالد البنات، أو الرجل الذي أحبته لاحقاً أو رجل الشرطة، يؤديها ممثل واحد (مجد مستورة)، فالرجال في قمعهم وقهرهم للنساء واحد، وإن تعددت وجوههم. نرى في معظم الأحيان ثياب ذلك الرجل ملوثة بالدماء، دماء النساء اللاتي يقتلهن الرجال والمجتمع الذكوري جسداً وروحاً.
نرى في الفيلم لعبة كانت تلعبها الأخوات الصغيرات، وهي لعبة الموت والمواراة في الثرى، حيث تسمع الفتيات أحاديث رجال الدين ووعيدهم وتهديدهم للنساء بعذاب القبر، إذا أعربن عن رغبتهن في عيش حياتهن كما يرغبن، أو إذا أبدين زينتهن أو لم يرتدين الحجاب والنقاب. ينفذ هذا التهديد والوعيد إلى عقول البنات الصغيرات، حتى أنهن يقررن تعذيب أنفسهن بأنفسهن جلداً وضرباً، وحتى دفنا في الثرى للتكفير عن التفكير في الحرية، التي صورها لهم رجال الدين على أنها خطيئة كبرى وذنب لا يغتفر.
وتلتبس مشاعرنا إزاء ألفة ذاتها، فهي امرأة ذات تاريخ شخصي معذب، امرأة زُوِجت غصباً، وقبلها تعرضت للعنف والتعنيف بعد هجر أبيها لأمها، ولكنها الضحية التي تشربت قيم الذكورية، فأصبحت قامعة لبناتها، تخاف عليهن من تقوّل النساء، ومن إدانة الرجال لسلوكهن، فأصبحت قامعة لهن.
في مشهد من مشاهد الفيلم نراها تحمل قطة حبلى، وتخاطب المخرجة. تقول إنها مثل هذه القطة، فالقطة حين تخشى على صغارها من الخطر تأكلها. وهكذا أصبحت ألفة، فقد أوسعت بناتها ضرباً وتضييقاً، حتى ضقن ذرعاً وفررن إلى أحضان «داعش».
تصف آية وتيسير مدى قسوة أمهما عليهما، وكيف كانت توسعهما ضربا وتكيل لهما السباب حتى لا يتصرفن بطريقة مغايرة لتقاليد المجتمع. لا نعرف حين نسمع ما تعرضتا له من ضرب وأذى نفسي على يد أمهما كيف يسعنا أن نتعاطف مع مثل هذه الأم، ولكننا في الحين ذاته حين نستمع إلى ألفة لا يسعنا إلا أن نتعاطف معها ونتفهم مدى عطبها النفسي الناجم عن قسوة المجتمع عليها.
ولكن الفيلم ليس مجرد بحث عن الأسباب التي قد تدفع فتاتين في الـ15 و16 من العمر للانضمام للتطرف والانضمام لداعش، وللسفر للانضمام لمقاتليها. الفيلم أيضاً عن الملاذ الذي تجده الأخوات في بعضهن بعضاً من بطش العالم والرجال. تتعرض الصغيرات للاعتداء الجسدي والجنسي من رجال يعتقدن أنهم أهل للثقة، ولا يجدن إلا بعضهن بعضا لتضميد الجراح النفسية.
في أحد مشاهد الفيلم تلتقي الاختان الصغيرتان، آية وتيسير، بالممثلتين اللتين ستقومان بدور شقيقتيهما المعتقلتين للانضمام لـ«داعش». نرى دموع الشقيقتين حين تريان الشبه بين أختيهما رحمة وغفران والممثلتين. تخبر الشقيقتان المخرجة أنهما تحاولان ألا تفكرا في شقيقتيهما، وفي ما حدث حتى لا تتحطم قلوبهن. وتقول أمهما الشيء ذاته. لألفة وآية وتيسير حضور طاغ على الشاشة، ولهن قدرة بالغة على الحصول على تعاطفنا. نود أحياناً لو كان بمقدورنا أن نمحي جزءاً بسيطاً مما تعرضن له من بطش وتنكيل وقهر.