المهرجاناتالمهرجانات العربيةسينما مصريةسينمانامراجعات فيلميةمهرجان القاهرةمهرجاناتنقد
زي عود الكبريت.. حسين الإمام يحتفي بالسينما وبنفسه
مفاجأة مزدوجة في “القاهرة السينمائي”
“زي عود الكبريت”.. حسين الإمام يحتفي بالسينما وبنفسه
“سينماتوغراف” ـ أحمد شوقي
مفاجأة سارة قدمها لنا مهرجان القاهرة السينمائي في اليوم الأول لعروضه، هي الفيلم المصري “زي عود الكبريت”، أول وآخر أعمال النجم الراحل حسين الإمام من مقعد الإخراج.
المفاجأة مزدوجة، فمن الجهة الصحفية، يصعب في سوق كالسوق المصري أن تتم صناعة فيلم بشكل سري، الكل يعرف كل شيء عن كل المشروعات حتى المتوقف منها، فإذا بفيلم حسين الإمام يظهر بعد وفاته، بمجهود واضح من ابنه المخرج الواعد يوسف الإمام. الجانب الثاني للمفاجأة هو المستوى الفني للفيلم نفسه، الذي جاء عملا حداثيا مغامرا، يمتاز بخفة ظل صانعه وبحثه الدائم عن السعادة، وعن كسر أي صورة مثالية واهمة يتم رسمها عن الفن وصناعه.
فكرة الفيلم ببساطة: حسين الإمام يشارك في أفلام والده حسن الإمام، يخلق حكاية وهمية عن عصابة لتهريب المخدرات، يصور لقطات بالأبيض والأسود بطريقة تمثيل وحركة وتصوير أفلام الستينيات، ويمزجها بلقطات أرشيفية تم اقتطاعها من ستة أفلام للوالد، ليستغل نفس جمل الممثلين في صياغة معاني مختلفة تماما عن الأصل.
تخيل معي، تاجر المخدرات يحتار كيف يقوم بتصريف بضاعته، فيختار بين الفتيات الثلاث العاملات في الملهى الذي يمتلكه، أنيسة (ماجدة الخطيب)، لولا (هند رستم)، وليلى (فاتن حمامة). لاحظ أن الاسماء هي شخصيات درامية شهيرة في مسيرة كل ممثلة، تماما كما يظهر فريد شوقي باسم سلطان، وسمير صبري باسم مِمّس، وحتى نور الشريف الذي يغني في الفيلم، فهو “متولي بتاع القماش”.
تكريم من نوع خاص
لا مجال هنا للحديث عن إهانة للرموز، فالتاريخ في النهاية هو تاريخ حسن الإمام نفسه، وحسين الذي عاش عمره كله يرفض أي محاولة للتثاقف أو الظهور بأكثر من راغب في السعادة العبثية، يفعل ذلك بحذافيره في فيلمه الوحيد: يقدم احترامه وتقديره للتاريخ على طريقته الخاصة، طريقته التي يتحول عماد حمدي فيها بفعل ألاعيب الحوار والمونتاج إلى قاتل محترف، ويتحول حوار عصابي يجريه محمد صبيح عبر الهاتف إلى نقاش حول ضروره قيامه بتغيير البنطلون والكلسون بعد أن “عمل على نفسه” من الرعب!
هذا الشكل في رأيي تكريم حقيقي لتراث السينما المصرية، لا يقدمه بطريقة مراسمية جامدة من باب الاحترام، ولكن يتعاطى معه باعتباره ثوابت مرجعية، يمكن الركون على تواجدها الدائم في عقول الجمهور، ليتم التلاعب بها والسخرية منها ومن خلالها. وعبارة “زي عود الكبريت” التي اختارها الإمام عنوان لفيلمه ورددها كثيرا على مدار الفيلم، هي نموذج واضح لهذا الشكل من التكريم، فهي عبارة رسختها السينما في القاموس العربي، وارتبطت بشكل وطريقة سرد الفيلم المصري، ليصبح استخدامها كموتيفة درامية ـ ولو بشكل ساخر ـ هو احتفاء بالسينما المصرية وتراثها.
لماذا نحب الفن؟
بعيدا عن تاريخ السينما المصرية، فإن هذا الفيلم المبهج أضاء في عقلي أشياء قليلا ما نفكر فيها وسط ضخب وزحام الحياة، أهمها: لماذا نحب الفن؟ سؤال تردد في ذهني وأنا أجد نفسي أضحك واستمتع بعمل يختلف كليا عن كل تصوراتي المسبقة عن ذائقتي الشخصية ونوعيات الأفلام التي أحبها، لأجد الإجابة في ثلاثة أشياء هي على الترتيب: الانفتاح على الاختلاف، الذاتية، والنحت في الزمن.
الانفتاح على الاختلاف هو ما يجعل الفن يستوعب كل التجارب المدهشة والغريبة والشاذة أحيانا، يجعلنا نستمتع بأفلام رصينة ذات ميزانيات مليونية، ونستمتع أكثر بفيلم قليل عبثي الصناعة محدود التكلفة مثل هذا الفيلم. يجعلنا نعيش مليون حياة وحياة دون ركود أو جمود.
والذاتية هي توافق الفيلم مع صانعه، فالسينما برغم كونها عمل جماعي إلا أنها تظل في صورتها النقية إبداعا فرديا، يحمل حس صاحبه ورؤيته وروحه، كأبن يحمل ملامح والده، تماما كما يمكن لأي شخص عرف حسين الإمام الممثل والكوميديان والموسيقي والمذيع أن يدرك بسهولة وبعد ثوان أن هذا عمل ينتمي لعالم صاحبه، حتى لو كان تجربته الإخراجية الوحيدة.
وأخيرا يبقى النحت في الزمن، مقارعة الموت والنسيان بالبقاء في ذاكرة الملايين. معظم أبطال الفيلم انتهت حياتهم، وجميعهم انتهى شبابهم، لكنهم بقوا في القلوب والعقول بسبب الدقائق الذهبية التي نحتوها في عمر الزمن. وحسين الإمام نفسه ودع الحياة بعد أن عاشها طولا وعرضا، لكنه اختار قبل الرحيل أن يقدم تغريدة أخيرة على طريقته العبثية، يضع فيها نفسه بنفسه جوار نجوم السينما المصرية، وكأنه أول من يحتفي بالراحل حسين الإمام ويكرمه!
“زي عود الكبريت” تجربة سينمائية عذبة، لا تنتظر حفاوة من أحد لأنها تحتفي بنفسها، لكن من يستحق الثناء هو صاحب قرار عرض هذا الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي.