المهرجاناتالمهرجانات العربيةسينمانامراجعات فيلميةمهرجان أبو ظبيمهرجاناتنقد
صمت الراعي.. حقيقة المسكوت عنه في قرية عراقية
ينافس في مسابقة “آفاق جديدة”
“صمت الراعي” .. حقيقة المسكوت عنه في قرية عراقية
أبوظبي ـ “سينماتوغراف”
قدم المخرج العراقي رعد مشتت في تجربته الروائية الطويلة الأولى فيلمه “صمت الراعي”، ضمن مسابقة آفاق جديدة بمهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الثامنة، ليبرز لمشاهديه أن الصمت القاتل للحقيقة هو محور الفيلم، وما أفرزه من ويلات على مجتمع بأسره، وكأنه يقول للعالم إن كتم الحقيقة والسكوت عنها هو الآفة التي يجب استئصالها قبل أن تقضي على علاقات مجتمع بأسره . لكن ذلك الصمت هو ما أفرزه الخوف في ظل الأنظمة السياسية والمجتمعية غير السوية.
صور “صمت الراعي” ظروفاً عاشتها قرية في جنوب العراق، حيث يحيا أهلها حياة عادية إلا أنها لا تخلو من المشكلات، التي تبدأ في التسلل إليها خفية إلى أن تُطبِق عليها في آخر المطاف، والخوف ولدته الحروب التي عاشها العراق والحصار الاقتصادي الذي جوّع الملايين، لكن هذا ليس كل شيء، فالمرأة كانت الضحية الأولى والأخيرة، الأرملة والمتزوجة والعازبة والعانس، كلهن عانين بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة .
تدور أحداث الفيلم في قرية العيون في محافظة السماوة بالعراق، صور المخرج القرية بعد الغزو الأمريكي في العام 2003 ليبرز مشاهد غير مفهومة حملت في طياتها الكثير من الألغاز، وهي على بساطتها ستكون جواباً أبلغ من كل تعبير في نهاية الفيلم، مشهد لامرأة تلبسها نساء كثيرات ثوباً أبيض على سواد، وأخرى ترقص حزناً على ما فات، وثالثة تركض نحو خالها وتقول له أنظر أهازيج أولئك الرجال، وأخريات يبكين أملاً وحزناً مما يخفيه مقبل الأيام من مفاجآت لا تزيد الوضع إلا خطراً وتأزماً، وما بين الفرح والحزن يبقى المشاهد في حيرة.
لغز اختفاء “زهرة” محيراً لسكان القرية، لأنه وصم عائلتها بالعار ونكس عقال والدها وألبس قلب أمها السواد وأهمل أختها، في وجه حقيقة ظلت مخفية بسبب صمت الراعي الذي كان يعيش حياة حب مع زوجته، ولكن حتى الحب تحول إلى صمت بعدما شاهد الإبادة الجماعية للأكراد وردمهم في التراب.
ينتقل المخرج إلى القرية عائداً بنا إلى العام 1987 وهو أحد سنوات الحرب العراقية – الإيرانية، التي أخذت في نيرانها الكثير من رجال العراق إلى جبهة الحرب، ويرصد آثارها من خلال قصص ثلاث عوائل، الأولى محورها أرملة أحد الشهداء، تعيل هي وأخيها ابنتيها، لكنه ما يلبث أن تجرفه الحرب معها فتبقى وحيدة وينبذها المجتمع لتزامن اختفائه مع اختفاء “زهرة”.
“زهرة” التي يقلب اختفاؤها موازيين قرية بكاملها، ذهبت إلى جدول الماء لتجلب منه القليل في الصباح الباكر، تختفي عن الوجود، فتشعل النار في قلب أسرتها التي ما لبثت تبحث عنها حتى عرفت مصيرها في العام 2003 لحظة نطق الراعي.
الراعي الصامت هو مربط الأحداث، يعيش مع زوجته حياة هادئة حتى اللحظة المريعة، التي يشهد فيها مركبات عسكرية ومدنية يقودها عراقيون تابعون للنظام العراقي آنذاك، يلقون بمدنيين أكراداً في حفرة ويقضون على أنفاسهم.
“زهرة” بحسب مخرج الفيلم هي اللغز الذي يكشف عن صمت شاهد يُخرسه الخوف من هول ذلك الاختفاء فيلوذ بالصمت، فتغيب الحقيقة ومعها مصير زهرة الذي يضيع بين خيال الحكاية وخوف الشاهد. صمت الراعي يحيل لخوف منطقي.
أحد صفات مجتمعات الاستبداد هي الصمت، وهو ما يرسمه المخرج في ذهن مشاهده، حيث ينقله بصورة غير مباشرة ليقول من خلاله إنه في ظروف ما يتحول إلى وسيلة للنجاة يلوذ بها أفراد المجتمع المقهور لتفادي شرور الاستبداد وبطشه الذي لا يعرف الرحمة، وأولى ضحايا الصمت هي الحقيقة، التي بقبرها يفقد الوجود الإنساني والمجتمعي واحدة من أهم خصاله الأصيلة والجذرية في وجوده هي إدراكه للحقيقة، بفقدها يتقدم الوهم للإمساك بتلابيب الحياة مطيحاً لا بالقيم الإنسانية وحدها، بل وبالإنسان نفسه. لكنه في الوقت ذاته ينقل المشاهد إلى صورة أخرى كشفت اللغز وألغت الصمت، إنها الصورة التي قدمها في بدء الفيلم، اختتم بها لتكشف للمشاهد انهيار الصمت أمام انهيار الاستبداد، مصوراً القرية بذات شخوصها في العام 2003 وهم يحتفلون بالحقيقة، لكن بعدما أطاحت بعمر كل من عاش تبعات الصمت.
قدم المخرج صورة واقعية للمكان والزمان واستطاع أن يبرز بألوانها وديكوارتها واكسسوارات الممثلين، وسحر مشاهده بلغز الفيلم المحير حول اختفاء زهرة، وهذا من أساليب التشويق التي تبقي على المشاهد في أوج انسجامه مع الفيلم، لكن في الوقت ذاته يؤخذ على الفيلم تفاوت أداء ممثليه، ففي حين عبر بعضهم عن مكامن الشخصية كان البعض الآخر غير منسجم معها، كما شهد تفاوتاً كذلك في نطق لهجة أهل القرية بين ممثليها، ربما يكون ذلك مبرراً في سياق رغبة المخرج في فهم الفيلم من قبل شريحة واسعة من المشاهدين.