كتب سينمائية

قراءة لكتاب «البغاء على شاشة السينما المصرية»

القاهرة ـ خاص «سينماتوغراف»

فى عام 1942 فاجأ المخرج توجو مزراحى الجمهور المصرى بفيلمه «ليلى» المأخوذ عن رواية «غادة الكاميليا» الذى ناقش من خلاله موضوعاً شديد الجرأة فى ذلك الوقت وتعرض فيه لظاهرة «البغاء» وأثار به ضجة كبيرة، ليفتح الباب واسعاً لعديد من المخرجين الذين أغواهم هذا الموضوع فظهرت عشرات الأفلام على مدى تاريخ السينما المصرية الممتد، بعضها يحلل الظاهرة وأكثرها يتاجر بها فصارت «العاهرة والقواد» أبطال لكثير من الأفلام المصرية.

هذا ما يرصده المخرج د . خالد بهجت في كتابه «البغاء على شاشة السينما المصرية- 1975-1985» الذى يستعرض فيه تاريخ البغاء في مصر منذ كان فعلاً مقدساً يمارس في المعبد ومروراً بتقنينه بعد دخول الإسلام وفترات انتشاره والتي ترتبط عادة بوجود احتلال مثلما انتشر في مصر في العصر العثماني وأثناء الحملة الفرنسية ثم الاحتلال الإنجليزي ثم صدور مرسوم بإلغائه رسمياً عام 1947، مؤكداً أن البغاء يعد أحد أمراض النفس _ اجتماعية التي تفاقمت حدتها كما تجمع الدراسات، فلم يكن غريباً ان يهتم الباحثون بهذه الحقبة ومدى مجاراة الفيلم السينمائي والسينما المصرية بشكل خــاص لمثل هـــذا الموضــوع الــذي يمثل ظاهرة إغوائية قد تدفع بالسينمائي لتناولها في اتجاهين فإما ان يستند للرصيد العلمي ليؤكد عمق التناول، وإما أن ينطلق من اثارة حواس المتلقي مستهدفاً شباك التذاكر بسينما رخيصة لاتهتم بالعلم ولا تلقي بالاً لدور الفن السينمائي في المجتمع.

يرى المؤلف أن عام 1974 كان حجر الزاوية في مسيرة الأعوام التالية فهو العام الذي ظهرت فيه ورقة اكتوبر بكل ما تتضمنه من مبادىء للتحولات الجديدة في هيكل الاقتصاد المصري والذي كان قد بدأت منذ عام 1971 لكنها لم تتبلور إلا عام 1974 فقد قدمت السينما المصرية البغاء في أبرز افلامها «قاع المدينة» و«الاخوة الاعداء» المأخوذ عن رواية «الاخوة كارامازف» وكليهما من اخراج حسام الدين مصطفى.. ففي فيلم قاع المدينة الذي تعمل فيه الخادمة «شهرت» عند أحد القضاة لكي تعيل أسرة فقيرة، ثقل الأطفال كاهلها وزوج مريض أدمن الأفيون، اضطرت «شهرت» أن تعمل مع القاضي المصاب بعقد جنسية تسقط «شهرت» بالخطيئة مرة تلو الاخرى، ويقدم  الفيلم شكلاً اخر للبغي في نفس الوقت هي مدام «زيزي» التي تدير منزلها للقمار والدعارة .

وقدمت السينما المصرية خلال الفترة من (1975_1985)  نحو 542 فيلماً بمعدل 54 فيلماً في العام الواحد تقريباً، منها 29 فيلماً ناقش موضوع البغاء، منها فيلم   «الهارب» عام 1975 اخراج «كمال الشيخ» وهو أول فيلم  يقدم في تلك الحقبة شخصية بغي، وفي نفس العام قدم عاطف سالم فيلم «ومضى قطار العمر» المقتبس من فيلم «بابا» اخراج (عاطف يالماظ التركي) والفيلم يقدم لنا انحراف فتاة واحترافها البغاء تحت وطأة الظروف الاجتماعية التي دفعت بها الى هذا المستنقع، ثم يقدم شادي عبدالسلام في «المومياء» شكلاً للبغاء في القبائل التي تعيش في الجبال حيث كان مكان البغاء في جوف الجبل، وفي عام 1976 قدم سيف سمير فيلم «دائرة الانتقام» عن قصة «الكونت دي مونت كرستو» حيث «جابر» الذي يخرج من السجن ويفاجأ أن شقيقته «شوشو» تعمل في منزل دعارة وقد احترفت المهنة بعد دخوله السجن، بعد ان زادت وطأة الحياة الاقتصادية بسجنه ومرض والدته واحتياجها للدواء.

قدم المؤلف بعض الفرضيات، منها أن السينما المصرية في الفترة 1957_1985 لم تهتم بمشكلة البغاء الاهتمام الواجب رغم معدلات الظاهرة المرتفعة، ويرى أن إغفال أفلام تلك الفترة للأسس العلمية للعوامل والاقتصادية والاجتماعية والنفسية لمشكلة البغاء، وتدهور الحركة النقدية باعتبارها ركناً هاماً في تطور الفيلم المصري من خلال كشف السلبيات.

يحاول دكتور بهجت خالد في كتابه العودة الى الجذور التاريخية لهذه الظاهرة وتاريخ البغاء في مصر، والدوافع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لهذه الظاهرة، وكيف تناولته السينما على مدى تاريخها، ويؤكد أن شخصية العاهرة ظلت دائماً ذات جاذبية خاصة لصناع السينما الذين أسرفوا فى استغلالها لكن دونما الغوص في أعماقها وأبعادها الحقيقية وبصفة عامة يرى أن السينما المصرية ظلت متخلفة عن إيقاع مجتمعها واقفة عند نوع من البهلوانيات الفنية على حبال سيرك من الأفكار تتأرجح في كل اتجاه ماعدا الاتجاه الحقيقي الذي كان يجب أن تلتزم به في مجتمع تبلغ ترتفع به نسبة الأمية بشكل مخيف.

وتحت عنوان «البغاء بين الواقع والسينما المصرية وإعادة بناء الوقائع» يرى المؤلف أنه كان طبيعياً أن تعالج السينما ظاهرة البغاء وكان المأمول وهى ذات تأثير طاغى  أن تسهم بدور مؤثر في مواجهة هذا الانحراف لتجيب عن أسئلة جديدة ولكن هذا لم يحدث، فقط امتلأت معظم الأفلام في هذا الاطار بحشد من المشاهد الجنسية ومشاهد الرقص والغناء والاستعراض، وهي العناصر التي استخدمتها السينما لتغيب الوعي وإثارة غرائز المتفرج، إذ ما يهم ضاع الفيلم هو شباك التذاكر.

الغريب كما يرصد د . خالد بهجت إن الرؤية السينمائية تزداد جرأة والأغرب هو موقف الرقابة والتساهل الذي نظن أنه كان نتيجة لواقع معين فرض على الرقابة قدرا من التسامح حتى يلهى الشعب وخاصة بعد هزيمة 67 وجاء نموذج العاهرة في معظم الأفلام السنيمائية أنها «بغي» تحمل مثلاً عليا وقيماً إنسانية بل وشرفاً أكثر من غيرها ممن يدعون الشرف من الطبقات الأعلى اجتماعيا واقتصاديا وتعليميا، وغالباً ما تنتهي الأفلام بموت العاهرة الضحية المضحية مما يعلى من قيمتها الإنسانية، وقد انحصرت الدوافع التي تدفع بالبطلة إلى طريق الانحراف فى العوامل الاقتصادية والاجتماعية ولم يهتم فيلم واحد بالدوافع النفسية باستثناء فيلم «بئر الحرمان»، ويفسر د. خالد بهجت لماذا تنسب جميع الأفلام التى تتناول قضية البغاء إلى ماقبل ثورة يوليو 1952 حتى التي تمت صناعتها في الثمانينات باستثناء «حمام الملاطيلي» فكان بعد نكسة 1967.

لم تقتصر صورة البغي على تلك الفتاة الفقيرة المسكينة فظهرت بغايا من طبقات برجوازية أو لهن أحلام من الثراء، ربطت معظم هذه الأفلام بين الجنس والفساد بصفة عامة وبالحالة العامة التي تعيشها مصر بعد هزيمة 1967 وهما تحديداً  «ثرثرة فوق النيل» و«حمام الملاطيلي» وأظهرت هذه الأفلام إن السقوط ليس خطيئة فرد فحسب بل هو نتاج مجتمع فاسد أيضاً.

ويعد المخرج حسين كمال أكثر من قدم أفلاماً بها شخصية العاهرات أو التى تتحول إلى عاهرة في ستة أفلام تنتمى لنوعيات مختلفة من بينها أفلام غنائية واستعراضية، يليه المخرج حسن الإمام، وهنري بركات، وبالطبع ليس غريباً إن تحقق هذه الأفلام أعلى الإيرادات في مواسم عرضها، ويرى د. بهجت إن هذا يتسق تماماً مع بنية السينما المصرية والجمهور الذي أدمنها، ويتهم د. خالد السينما ذاتها بأنها لعبت دورا أساسيا لتقدم نفسها بكل عناصر الإغواء والأغراء وكانت مغيبة للوعي بالقضايا الأساسية للمجتمع الذي كان في أمس الحاجة إلى رسالتها.

وباستعراض أهم الأفلام التي تناولت هذه القضية يأتي فيلم ليلى إخراج توجو مزراحي  1942 فيرى د . خالد إن الفيلم لم يناقش الأسباب التي أدت بليلي إلى الخطيئة وأنصب الاهتمام على الديكورات الباذخة والحفلات الصاخبة والألفاظ الأجنبية والإغراق في الطبيعة الميلودرامية ولم تناقش أي من ابعادها ولم يختلف فيلم «البؤساء» 1943 عن رواية فيكتور هوجو في تناوله لهذه القضية الحساسة فواصل   تكرار شخصية البغي بما تقدمه من سلعة متدنية تجذب نقود العملاء من خلال قوادين هم (المنتجون) الذين يسعون للربح ولا شيء غيره خاصة في شعار «الجمهور عاوز كده».

وتتوالى الأفلام النمطية المكررة لنفس النموذج بنفس التفاصيل، فيقدم حسين فوزي فيلم «عزيزة» 1954 وأحمد بدرخان بفيلم «عهد الهوا» 1955، و«الجسد» إخراج حسن الإمام 1956 ويختلف ما قدمه صلاح أبو سيف في فيلم «شباب امرأة» فيصبح البغي رجل وليس امرأة، وتعود التيمة مجدداً عام 1957 بفيلم لحسام الدين مصطفى «حياة غانية» ثم «وكر الملذات» لحسن الإمام، و«طريق الأمل» لعز الدين ذو الفقار ويدخل إلى الحلبة يوسف شاهين عام 1959 بفيلم «حب إلى الأبد» والذي تبرز فيه البغي باعتبارها نموذجاً أفضل من رجل الأعمال المرشح لدخول البرلمان، ويرصد المؤلف د. خالد بهجت أفلاماً أخرى مثل «بداية ونهاية»، «اللص والكلاب»، «زقاق المدق»، «شفيقة القبطية»، «بين القصرين»، «الراهبة»، «القاهرة 30»، «قصر الشوق»، «السمان والخريف»، «البوسطجي»، «أبي فوق الشجرة»، «بئر الحرمان»، «دلال المصرية»، «نحن لا نزرع الشوك»، «اختى»، «الخيط الرفيع»، و«ثرثرة فوق النيل» الذي يرى المؤلف أنه شهد تطوراً في نوعية البغي فهي أنيقة ذات مستوى راق في ملابسها وعطورها تتشابه مع عاهرة فيلم «انف وثلاث عيون» وعاهرات الطبقة البرجوازية في فيلم «دمي ودموعي وابتساماتي» والذي جاء نسخة كربونية من فيلم «امرأة سيئة السمعة» وبعد هذا الاستعراض يهاجم د. خالد بهجت السينما المصرية التي تخلت عن رسالتها فأصبحت سينما سيئة السمعة.

صدر الكتاب الذي يقع في 375 صفحة كبيرة القطع في سلسلة (الرسائل) عن أكاديمية الفنون بالقاهرة، وكان الكتاب أطروحة علمية حصل بها الباحث عام 1992 على درجة الماجستير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى