مراجعات فيلمية

مراجعة «شغف دودان بوفان» | فيلم يحتفي بالاشتهاء والمذاق

كان (فرنسا) ـ نسرين سيد أحمد

أن تشغف بالحياة ومباهجها، أن تصبح فناناً تبدع يداك ما يدفئ القلب وما تطرب له العيون، أن تكون ذواقة تمتلك من رفاهة الحس ما يمكنك من إبداع أطباق تشتهيها الأعين ويستلذ بها أصحاب المذاق الرفيع. هذا ما نجده بسخاء في فيلم «شغف دودان بوفان» الذي حصل عنه المخرج الفرنسي الفيتنامي المولد تران آن هونغ على جائزة الإخراج في مهرجان كان السينمائي في دورته السادسة والسبعين.

ينتمي فيلم «شغف دودان بوفان» إلى سلالة نادرة من الأفلام تحتفي بالطعام، تحتفي به ليس لملء البطون، بل لأنه فن لا يقل إبداعاً عن لوحة بديعة نتأملها في أحد المتاحف، كما أنه يتغنى بالمذاقات والروائح الشهية ويحفل بالألوان والتوابل التي يسيل لها لعابنا ونحن نشاهد العمل.

بعد أفلام مثل «وليمة بابيت» للمخرج الدنماركي غابريل أكسيل (1987) و»أكل شراب رجل امرأة» لآنغ لي ( 1994) يأتينا «شغف دودان بوفان» ليصحبنا في رحلة حسية مترفة ممتعة في عالم المذاق والمطبخ الرفيع، حيث يمكن للذواقة أن يميز أدق مكونات الطبق الشهي من مجرد رشفة حساء واحدة. وكما نرى في الفيلم مدى الشغف المبذول في إعداد أصناف الطعام، وكم التفاصيل الشهية الثرية التي تبذل لتقديم طبق تشتهيه الأنفس، يبذل المخرج تران أن هونغ الجهد ذاته لينجز وليمة حسية وبصرية تطرب لها قلوبنا. إنه فيلم يحتفي بالشغف والطعام والحب والحسية، ويقدمها جميعا بسخاء.

الشخصيتان المحوريتان في الفيلم هما دودان بوفان (بينوا ماجيميل في أداء بديع) وأوجيني (جولييت بينوش في أداء مرهف) اللذان يبدعان الطعام ويغدقان الحب والعشق في الفيلم المقتبس عن كتاب «حياة وشغف دودان بوفان» (1924) للفرنسي السويسري مارسيل روف.

يبدأ الفيلم كما ينبغي لفيلم يحتفي بالطعام والطهي الرفيع أن يبدأ، في المطبخ الأنيق العامر بأجود اللحوم والأسماك والخضر والتوابل في منزل فرنسي ريفي أنيق تحفه حديقة غناء في القرن التاسع عشر، ونحن نتأمل بشغف متزايد إعداد وليمة من الأطباق الشهية.

صاحب المنزل هو الذواقة دودان بوفان، أما أوجيني فهي طاهيته المبدعة مرهفة الحس، التي تطهو له وتشاركه الطعام منذ نحو عشرين عاما. وفي الفيلم لا ينفصل الطعام عن العشق، لذا فقد شغف دودان عشقا بأوجيني، يشاركها عشقه للمذاق المرهف، فتسمح له أحيانا أن يبادلها الغرام جسدا. يحبها وتحبه، لكنها تأبى أن يقيد حبهما زواج. يشغفان بالطعام والمذاق، ويتبادلان الغرام، فلا يسعنا إلا أن نغبطهما على جنتهما الوارفة، التي تحفل بما لذ وطاب.

عندما يكرر عليها طلبه للزواج، تكتفي بابتسامة قائلة إنهما سعداء بحياتهما كما هي. وهما بالحق سعداء، سعادة تطل من كل لحظة من لحظات الفيلم، ومع كل مشهد. دودان لا يكتفي بدور سيد المنزل الذي يقرع الأجراس فيأتيه ما يشتهي، فهو ذاته يعشق الطهي ويشارك فيه بشغف. المطبخ ليس بالنسبة له مكانا لإعداد الطعام، بل هو مكان يشتهى في حد ذاته، فهو صومعة للإبداع. هو رجل متطلب، ليس لنزق أو لعجرفة، بل هكذا يكون الذواقة. يجلس بالقرب من بولين، المتدربة الصغيرة في مطبخه العامر، ليختبر ذائقتها، ونحن كما لو كنا طرفاً في هذا الاختبار، نتذوق هذا الحساء الشهي، ونستمتع بنكهته التي تكشف مذاقها رويدا رويدا.

في «شغف دودان بوفان» لا يأتي الطعام كمجرد سبيل لإشباع الجوع، فالطعام بالنسبة لدودان هو أسلوب حياة. هو تعبير عما هو أصيل ومبدع، إعراب عن الجودة التي لا تضاهيها جودة، دون تفاخر أو تكلف. ذات يوم يُدعى دودان لوليمة لدى أحد الأمراء، مقصدها إبهار دودان، الذي يصفه الداعي بأنه «نابوليون المطبخ الراقي» لكن دودان يعود من تلك الوليمة مستاء، فقد أكثر الأمير في تقديم أصناف الطعام، لكن دون رقي ودون رهافة في الحس.. كان هذا البذخ المتصنع المفتقر لفهم الطعام منفرا لدودان، الطعام في عالم دودان هو قصيدة حسية، لا يفهمها إلا من يقدر الفن والإبداع.

يقرر دودان أن يرد وليمة الأمير بدعوته إلى طبق فرنسي ريفي بسيط، لكنه غني بالنكهة وبخير ما تجود به الأرض. طبق بسيط شهي خير من وليمة تغص بصنوف الطعام وتفتقر إلى الذوق والذائقة، وهذا الطبق البسيط الشهي تحديداً هو ما يقدمه تران آن هانغ في فيلمه. هو فيلم شهي، إن كان بوسعنا أن نصف فيلماً بأنه شهي. وهو فيلم لا يخجل من الاحتفاء بالحسية والاشتهاء والمذاق، لا يسعنا ونحن نشاهد الفيلم إلا أن ترتسم على وجوهنا بسمة رضا كما ترتسم على وجهي دودان وأوجيني بعد تذوق طعام شهي أبدعاً في صنعه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى