افتتح «لندن السينمائي»: «تنفس».. رسالة أمل وتحدٍ لواقع مأساوي
«سينماتوغراف» ـ الوكالات: صفاء الصالح
رسالة أمل إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، ارسلها مهرجان لندن السينمائي في حفل افتتاحه ضمن قصة حب وشجاعة وتضامن وتحدٍ للقدر في فيلم “تنفس” الذي افتتحت به دورة المهرجان الحادية والستين مساء أمس الأربعاء.
هذه الرسالة التي حملت مضموناً إنسانياً عاماً واعتمدت على سيرة شخصية حقيقية من منتصف القرن الماضي جاءت وسط أجواء بريطانية خالصة، واختيرت لافتتاح دورة احتفت بالصناعة السينمائية البريطانية والتي سيكون فيلما الاختتام منها أيضاً.
بيد أن النوايا الطيبة والرسائل المشحونة بالعاطفة والمحتوى الإنساني لا تكفي وحدها لخلق فيلم جيد، ما لم يُسند بدربة واتقان فنيين وشكل سينمائي مميز.
لقد حاول الفيلم اختيار مدخل يركز على تقديم حكاية ممتعة ممتلئة بالأمل واستخلاص رسالة محبة من حدث مأساوي قدري، فهل نجح الممثل البريطاني أندي سركيس (والده طبيب نسائية من مواليد العراق ومن أصول أرمنية)، في تحقيق ذلك في محاولته الإخراجية الأولى التي قدمت فيلم سيرة بعيداً عن أفلام المغامرات الفنتازية التي خبر العمل فيها؟
قصة تحدٍ
بلمسة رومانتيكية واضحة، يفتتح سركيس فيلمه وسط مناظر طبيعية من الريف الإنجليزي، وقصة حب تنشأ بين أبناء طبقة مرفهة، تشتعل شرارتها وسط المساحات الخضراء في ملعب بيسبول، حيث نرى الشاب روبن (الممثل أندرو غارفيلد) يرسل كرته لتقع خلف ديانا (الممثلة كلير فوي)، الفتاة المعجب بها والتي يصورها والهواء يلعب بشعرها ويرفع أطراف ثوبها الزاهي وسط شلال من الضوء الساطع وسط الخضرة الساحرة.
يمر الفيلم سريعاً على قصة الحب تلك لينقلنا إلى مناظر طبيعية ساحرة أخرى في أفريقيا (يفترض أنها قرب العاصمة الكينية نيروبي أواخر الخمسينيات)، حيث نرى الزوجين روبن وديانا وسط مجموعة من أصدقائهما، بعد انتقالهما إلى هناك حيث يعمل روبن في تجارة الشاي.
بيد أن هذه الأجواء السعيدة تستحيل إلى واقع مأساوي مع إصابة روبن بشلل أطفال متأخر وهو سن 28 عاماً، بينما تنتظر ديانا مولودهما الأول.
هنا تستحيل القدرية تلك إلى قصة تحدٍ مع إصرار ديانا على الوقوف بوجه القدر إلى جانب زوجها الذي شل كليا وبات يعتمد في حياته على جهاز تنفس خارجي وتوقع الأطباء أنه لن يعيش سوى بضعة أشهر، لتعيده إلى بريطانيا وتواصل كفاحها لابقائه على قيد الحياة وبث الأمل في داخله.
وتبدأ في تحويل يأسه ورغبته بإنهاء حياته إلى أمل عبر سلسلة من التحديات لواقع شلله الكامل، فتنجح في إخراجه من المستشفى الذي وضع فيه ونقله إلى منزل ريفي تشتريه خصيصاً للعناية به، ويقدم سركيس عملية تهريبه من المستشفى بمساعدة طبيب هندي وممرضة بعد رفض مدير المستشفى إخراجه بمشهد بدا أقرب إلى المشاهد التي نشاهدها في أفلام المغامرات الفنتازية.
وتتغير حياة روبن بمساعدة صديق العائلة البروفسور في جامعة أُكسفورد، تيدي هول، (يؤدي دوره الممثل هيو بونفيل) الذي يخترع له كرسياً متحركاً مزوداً ببطارية لتشغيل جهاز التنفس الملحق به.
وتسعى ديانا إلى أن تجعل حياته أقرب إلى الطبيعية على الرغم من شلله وعوقه الشديد، فتأخذه في جولات وتجمع أصدقاءه في حفلات حوله، بل وتجازف بنقله بالطائرة في رحلة إلى اسبانيا.
وبعد نجاح تجربة الكرسي المتحرك ينشط الزوجان معا في تعميم التجربة والعمل على اقناع الجهات المسؤولة لتقديم كراسٍ متحركة لأمثاله، بل يذهبان إلى مؤتمر عن المعاقين في ألمانيا، التي تفتخر بوجود مستشفى متقدم فيها لكنه يضع مرضى الشلل في صناديق معقمة لا تظهر منها سوى رؤوسهم وفيها أجهزة إدامة حياتهم، حيث يلقي كلمة أمام المؤتمر يسميهم فيها بالسجناء ويطالب بتحريرهم وإعادة النظر بطريقة معاملة مرضى الشلل.
عبر روح التضامن والمحبة تمتد حياة روبن من الأشهر الثلاث التي تنبأ بها الأطباء إلى أكثر من عقدين، حيث توفي في عام 1981 بعد اصابته بنزف في الرئة، وحاول الفيلم أيضاً الايحاء بأن وفاته جاءت بقرار منه بعد تدهور حالته.
رؤية مبالغة
لعل محنة سركيس وشريكه في شركة “ايماجنيريوم” للإنتاج السينمائي ومنتج هذا الفيلم، جونثان كافينديش، هو القرب العاطفي من الموضوعة التي يعالجانها، وهي قصة روبن كافينديش والد جونثان نفسه.
هذا القرب قاد إلى رؤية مبالغة في مثاليتها في التعامل مع الشخصيات والتركيز على الأبعاد الإيجابية وإهمال بعض التحديات الكبرى التي تواجهها في الواقع المأساوي المر الذي تعيشه او تطفيف تأثيرها.
وترك ذلك أيضا آثاره على السيناريو الذي كتبه وليم نيكلسون (من أعماله المجالد والبوساء) و لجأ فيه إلى حلول وأحداث خارجية حاولت الخروج برؤيا إيجابية متفائلة، سطحت احياناً هذه الشخصية التراجيدية وفشلت في استثمار التوتر الدرامي الكبير الذي يخلقه عمق التحديات الداخلية (السايكولوجية) للشخصية في مواجهة مصيرها القدري.
على سبيل المثال لا الحصر موضوعة الجنس والتحديات التي يمكن أن تواجه الزوجة في هذا الصدد، فلم يقدم الفيلم سوى مشاهد مبالغة في رومانتيكيتها لقبل وعناق لرجل مشلول يعيش على جهاز تنفس.
وعمق هذا الاحساس مقاربة سركيس لموضوعته في ضوء دربته وخبرته السابقة في أفلام الفنتازيا، سواء في عمله في شركة الانتاج التي تقدم نفسها بأنها “شركة إنتاج متعددة الوسائط تركز على الجيل القادم من التقنيات السردية”، وعمله هو شخصياً في مجال التمثيل لشخصيات خيالية تتم معالجتها بالكومبيوتر”CGI” كما هي الحال في شخصية غولم في ثلاثية سيد الخواتم، وأدواره في أفلام “مغامرات تان تان” و”بزوغ كوكب القردة” و”حرب النجوم”، والفيلم الآخر الذي أخرجه ولم يظهر بعد “كتاب الادغال”.
لذا كان عمل سركيس يجنح إلى حافة الفنتازيا على الرغم من تعاملة مع سيرة واقعية، ويبدو أن هذا ما راهن عليه لتقديم عمله، مشددا على أن هدفه أن يستخلص الفرح والمتعة في قلب الحدث المأساوي. وربما نجح في ذلك في مشهدين أساسيين في الفيلم، هو مشهد رقص القرويين الاسبان حول روبن عندما يواجه الموت بعد احتراق بطارية جهاز تنفسه في القرية الجبلية المنعزلة، حيث استحالت مواجهة الموت إلى احتفال بالحياة، ومشهد خروج المشلولين من المستشفى بعد توفير الكراسي المتحركة لهم.
بيد أن هذا النهج اسقطه في كثير من المشاهد الأخرى في المبالغة وفي تجريد الحدث المأساوي من آثاره المؤلمة وتقديمه بطريقة (معقمة)، مغلفة بفضاء من المثالية.
محاكاة فانتازية
رسم سركيس كثيراً من المشاهد بمحاكاة خيال طفولي كذاك الذي نراه في الأفلام الفنتازية والحكايات الخرافية، (ربما استمده من تصور ابنه منتج الفيلم الذي عاش شلل والده في طفولته)، وانسحب ذلك على رسم الشخصيات نفسها، كما هي الحال مع شخصيتي أخويّ الزوجة التوأم، اللذين ظهرا وكأنهما خارجان من فيلم “أليس في بلاد العجائب”(أداهما ممثل واحد هو توم هولاندر).
يقول مخرج الفيلم إنه جاء إلى فكرة العمل أثناء عمله مع كافينديش على إخراج الفيلم الفنتازي “كتاب الأدغال” المأخوذ عن قصة رديارد كيبلينغ الشهيرة بالاسم نفسه، فأعلن حماسه لإخراج فيلم عن قصة والده الذي أصيب بشلل الأطفال بعمر متأخر، وإنهما أكملا الإعدادات للفيلم والتمويل المطلوب بسرعة شديدة وهما يعملان على الفيلم الآخر، وصورا الفيلم في سبعة أسابيع بعد اختيار الممثل اندرو غارفيلد لأداء الدور الرئيسي فيه، ثلاثة منها في جنوب أفريقيا لتصوير المشاهد التي تخص كينيا.
هذه المقاربة الإخراجية تركت آثارها على ممثلي الفيلم، فلم يكن الممثل أندرو غارفيلد، الذي أدى دور روبن في الفيلم، في أحسن حالاته الأدائية، وبدا غير موفق في تجسيد الشخصية المعاقة، لاسيما في طبقة الصوت التي اختارها لمحاكاة حديث شخص مصاب بالشلل ثقبت حنجرته لإدخال أنبوب تنفس، وحملت حركاته الكثير من المبالغة، وضع شخصيته المأساوية في صورة أقرب إلى الكوميديا في بعض المشاهد، ويبدو أن ذلك كان مقصودا من المخرج الذي يريد أن يستخلص الفرح في قلب المأساة كما أشرنا.
ولن تكون في مصلحة غارفيلد المقارنة مع ممثلين آخرين أدوا أدوار شخصيات معاقة، مثل ايدي ريدمان الذي جسد دور عالم الفيزياء ستيفن هوكينغ ونال الاوسكار عنه في فيلم “نظرية كل شيء”، وقد كان حاضراً في حفل افتتاح المهرجان.
ونجحت الممثلة كلير فوي على الرغم من رصيدها المحدود نسبياً في التمثيل السينمائي في تجسيد شحصية ديانا الزوجة القوية الشخصية والمصرة على تحدي قدرها وقلب تجربة الموات إلى حياة وتضامن ومحبة.
وكانت كاميرا روبرت ريتشاردسون (الحاصل على ثلاث جوائز أوسكار سابقة عن أفلام: جي أف كي وأفاتار وهوغو) الأبرز في هذا الفيلم عبر تلك المشاهد البانورامية الخلابة للطبيعة الأفريقية أو للريف الإنجليزي وخضرته المميزة، أو حتى تلك المشاهد الداخلية التي وزعت مساقط الضوء في إنارة تفاصيل الأماكن أو وجوه الشخصيات فيها بطريقة فاتنة.
رسالة الأمل لمرضى شلل الأطفال التي قدمها الفيلم رافقها تقديم منشورات تعريفية بالمرض ودعوات لنشاطات خيرية لدعم جمعيات مكافحته، وجاءت وسط ذاك المناخ الاحتفائي على السجادة الحمراء في ساحة ليستر سكوير التي احتشدت بالنجوم الذين حضروا حفل افتتاح المهرجان من أمثال: بندكيت كامبرباتش و كاري موليغان وايدي ريدماين وغيرهم.