تعرف على: أسرار 90 سنة إغراء في السينما المصرية
القاهرة ـ نرمين يُسر
لم تكن هياتم بطلة إغراء أولى في السينما المصرية، لكنها كانت «نجمة في حتتها»، ممثلة ممتلئة «مرسومة بالقلم» كما كانت تقول عن نفسها، صاحبة جسد «بلدي» جعلها واحدة من أبرز فنانات ما يمكن أن نسميه «الإغراء الشعبى» على الشاشة الصغيرة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.
برحيل هياتم، التي توقفت لاعتبارات السن عن لعب أدوار الإغراء منذ سنوات، وإن كانت تؤديه بمجرد طلاتها المعدودة أواخر سنوات عمرها، عاد السؤال مجددًا عن بطلات الإثارة والإغراء في السينما المصرية، وكيف تطور الأمر من مجرد قبلة خجولة في العشرينيات، مرورًا بتعرٍ كامل في فترة «المقاولات»، ثم التراجع تحت دعاوى «السينما النظيفة» إلى المحاولات الفردية الجريئة، التي استعادت التعري مرة أخرى وإن كان جزئيًا في سياق الدراما.
البداية كانت خجولة بـ «قُبلة في الصحراء» عام 1927
لطالما كانت لشخصية محترفات البغاء جاذبية خاصة لمخرجي ومنتجي الأعمال السينمائية لما تتميز به هذه الشخصية من أبعاد متنوعة، أو بلغة السينمائيين «قماشة واسعة»، أي يمكن أن تفصِّل من هذه القماشة ملابس مختلفة الذوق وتصنع أزياءً شتى، تتناسب مع عدة وجوه.
قدمت السينما المصرية شخصية البغاء في عدة أفلام مهمة، شكلًا ومضمونًا، كما ظهرت شخصية هذه المرأة بالعمق الكافي الذي يفسر جميع جوانب حياتها، بائسة كانت أم سعيدة. وعادة ما تكون حياة مزرية. تقع المرأة تحت ضغط الحاجة ووفاء التزامات تحملها على عاتقها كمعظم أدوار البغاء، مثلما شاهدنا «نفيسة» في فيلم «بداية ونهاية» و«إحسان» في «القاهرة 30» و«ريري» في «السمان والخريف»، أو تتجه إلى طريق البغاء انتقامًا من حبيب غادر مثلما فعلت «شفيقة» في فيلم «شفيقة ومتولى».
نظرًا لسيطرة فكرة تقديم السينما الهادفة التي اقتنع بها المخرجون الأوائل في بدايات الصناعة، رغبةً منهم في احترام عقلية الجمهور، بالإضافة إلى ملاءمة الأفكار المقدمة لعاداته وثقافته، حرص الصنّاع على أن يبتعدوا عن الأفكار غير المستحسنة التي لا تهدف إلى تقديم حلول لمشكلات المجتمع المصري، إلا في مرة وحيدة أو قل أولى، في فيلم من أوائل إنتاجات السينما المصرية بعنوان «قُبلة في الصحراء»، فكانت أولى القبلات السينمائية بإخراج إبراهيم لامار، وتحديدًا في عام 1927.
منطقي أن يحتوي الفيلم على قُبلة طالما يحمل عنوان «قُبلة في الصحراء». وقتها أحدثت هذه القبلة لغطًا بين جمهور مندهش من جرأة الحدث، وآخر معتاد عليه من مشاهدات الأفلام الأوروبية التي كانت الأقرب إليه وقتها. عندما بدأت السينما تتخذ شكلها التجاري بعد الحرب العالمية الثانية، تغيرت معايير الاختيارات كما اختلفت صورة المرأة الابنة أو الزوجة التي عادة ما تكون أرستقراطية، وحتى وإذا كانت فقيرة فتبدو أرستقراطية بأدائها الراقي، إذ ظهرت تلك الصورة بداية من سميرة خلوصي وراقية إبراهيم ورجاء عبده، اللائي قدمن شخصيات نسائية راقيات ومتحفظات، حتى سيطرت أفكار جديدة على السينما في تقديم الإغراء بمفهومه الصحيح والبعيد عن الرُخص.
نعيمة وكاريوكا «الجسد المتناسق» وهند تكتسح بـ«أنوثة بلا ابتذال»
ظهر الإغراء كواحد من أنواع التمثيل الواقعي والتصويري الذي ينقل حقيقة من حقائق المجتمعات الدولية، وهى وجود الأنثى جميلة الملامح ومتناسقة الجسد، هذه المرأة التي ظهرت على الشاشة متمثلة في تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف، وذلك في أفلام الأربعينيات التي شهدت نجاحًا كبيرًا، يرجع إلى استخدام الراقصات في الأفلام الدرامية والأكشن، لأن وجودها في أحداث الفيلم يعد أساس الجذب وضمان امتلاء قاعات العرض.
لم تقدم «سامية» أو «تحية» أو «نعيمة» أدوار إغراء صريحة، ولا تضمنت أفلامهن مشاهد عُرى، ولكن اعتمادًا على جمال ملامح وجوههن وبراعة رقصاتهن البعيدة عن الخلاعة، نجحن في اجتذاب الجمهور المصري إلى يومنا هذا، هذا الجذب الذى فشلت فيه ممثلات معاصرات ظهرن في أفلام الألفية وما بعدها، هن جميلات حصلن على حب وقبول الجمهور الذى يغفر لهن، بل يدعو لهن بالشفاء والرحمة إذا ما توفيت إحداهن.
سرعان ما سطع نجم هند رستم وقد انتقلت من الأدوار الصغيرة والعابرة إلى الأدوار التي عرفناها بها، مثل «هنومة» في «باب الحديد» و«نعمت» في فيلم «الجسد».
«هند» الرقيقة التي تنتزع إعجاب المشاهدين كما تثير حسد المشاهدات من النساء، لم تقدم الإغراء المبتذل أو القبلات اللاهبة، ولكن صدّرت إغراءها من خلال قوة شخصيتها وطغيان أنوثتها على أبطال الفيلم من الرجال، إذ تتعامل بأسلوب آسر وجذّاب في جميع أدوارها.
لم تُصنّف سعاد حسنى كممثلة إغراء صريح، ولكن «سعاد» مثّلت الإغراء بعينه بأدائها الأنثوي المتخفي تحت قناع طفولي محبب لقلوب جمهورها. ربما ظهرت «السندريلا» في أفلام «الكرنك» و«بئر الحرمان» في مشاهد مثيرة، ليست مشاهد مقحمة وإنما من أصل الحبكة الدرامية. لم تتغير آراء جمهورها عن محتوى ما تقدمه إلا في سبعينيات القرن الماضي مع بداية ظهور الحركات السلفية في نفس التوقيت الذي ظهرت فيه أفلام المقاولات، فاختلط الحابل بالنابل وحصلت كل ممثلة تقدم مشهد قبلات عادية على لقب ممثلة إغراء.
إذن، انحصرت أدوار الإغراء في الخمسينيات في النساء الأرامل أو المطلقات، واللائي يقمن بإغواء الرجال ممن هم أصغر منهن سنًا، مثلما فعلت «شفاعات»، «تحية كاريوكا» في «شباب امرأة»، أو الراقصة التي يقع في غرامها ابن الطبقة الراقية مثلما ظهرت «تمر حنة»، «نعيمة عاكف» في التطلع إلى «أحمد»، «أحمد رمزي» ابن الباشا.
شمس وناهد «ممنوعات من العرض» وجرأة فردية لـ«علا وحورية»
في السبعينيات، ظهرت نجمات جديدات كسرن قاعدة فن الإغراء في السينما، منهن شمس البارودي بفيلمها الممنوع من العرض على الشاشات العامة حتى يومنا هذا «حمام الملاطيلى»، ومن بعده توالت أفلامها المثيرة التي صُنفت على أنها ممثلة أفلام إباحية وليس إغراء فحسب.
شهدت نفس الفترة أيضًا ظهور ناهد شريف على ساحة الإغراء، واكتسبت لقب ممثلة الإغراء الأولى، بما قدمته من أدوار أكثر جرأة مما قدمت زميلاتها. فعلى سبيل المثال، قدمت «ناهد» فيلم «ذئاب لا تأكل اللحم» الذي ظهرت فيه عارية تمامًا في أحد المشاهد، وهو فيلم ممنوع من العرض في جميع الدول العربية، خاصة أنه جرى تصويره في دولة الكويت، ما أثار غضب الجمهور العربي، كما أثار متعته أيضًا، لا نستطيع إنكار هذا.
بحلول الثمانينيات، تبلورت وترسخت مبادئ التيارات السلفية التي كانت من الذكاء في أن تتصيد إحباطات الشعب الاقتصادية وظروف البلاد المضطربة ما بين الانفتاح والتقدمية، فاتجه الناس إلى الاحتماء بتعاليم السماء في مواجهة ما اعتبروه الابتذال الفني.
لكن في المقابل، واجهت صناعة السينما الكثير من الركود، فاضطر صنّاعها إلى اللجوء لأفلام متواضعة المستوى واللعب على غريزة المشاهد بالإثارة، فظهر نجم هياتم وسميرة صدقى وليلى حمادة وغيرهن من ممثلات الإغراء والعُرى أو الملابس الشفافة والرقصات الخليعة غير المبررة سوى لغرض إثارة شهوات وخيالات الجمهور.
لكن سرعان ما انتهت تلك الفترة بسيطرة نبيلة عبيد «نجمة مصر الأولى» ونادية الجندي «نجمة الجماهير»، بما قدمتاه من أفلام جادة في المحتوى، مثل «الراقصة والسياسي» للأولى و«رغبة متوحشة» للثانية، فيما لم تخل معظم أفلامهما من مشاهد الرقص والإغراء الجسدي المغطى بملابس شفافة تُظهر أكثر مما تخفى.
بالنظر إلى تاريخ الإغراء في السينما المصرية الذي انتقل إلى مدرسة جديدة عُرفت بـ«السينما النظيفة»، بكل ما يشتمل عليه هذا المصطلح من شعور طاغٍ بالغثيان والرفض لتصنيف إبداعات السينما بين نظيف وغير نظيف، نجد مثلًا منى زكى وياسمين عبد العزيز وحنان ترك- والأخيرة أعلنت «ندمها» على قُبلتها الوحيدة مع هاني سلامة في فيلم «الآخر»- كل هؤلاء قدمن سينما لا يقتحمها مشهد قُبلة واحد وكأنهن يُعِدن الزمن إلى فترة أفلام فاتن حمامة.
لم تستمر تلك الفترة «النظيفة» طويلًا حتى اقتحمت حورية فرغلي وعلا غانم وغيرهما من ممثلات الإغراء اللائي قدمن بضعة مشاهد لا يمكن تصنيفها بعيدًا عن الإغراء الذي تطور من مراحل الإغواء بغمزة العين ولثغة اللسان إلى الإغراء الصريح والتعري الجزئي مثلما فعلت «حورية» في «كلمني شكرًا»، بعد أن كانت كلمة «سِنتى» لسميرة خلوصي تكفي، عندما عبرّت عن ألم أسنانها لحكيم العيون الذى «يفهم في العين ويفهم كمان في رموش العين».