«حيوانات ليلية».. دهشة السرد في فضاء روائي عنيف
ـ رجا ساير المطيري
منذ فيلم “مولهولاند درايف” للمخرج ديفيد لينش لم تقدم هوليود فيلماً مستفزاً ومدهشاً في بنائه السردي مثل فيلم “حيوانات ليلية-Nocturnal Animals” الذي ظهر هذا العام بسيناريو مركب مشبع بالألغاز يُتوقع أن يكون الفارس المتوج بأوسكار أفضل سيناريو مقتبس في الحفل السينمائي الكبير الذي سيعقد نهاية شهر فبراير المقبل. ويكمن الإدهاش في هذا السيناريو في قدرته على تصوير وظيفة الأدب وأدوات الروائي التي يستغلها للتأثير في قارئه؛ تأثيراً يصل إلى حد الاستحواذ والتماهي.
يروي الفيلم عبر ثلاثة مسارات متداخلة، قصة السيدة سوزان –أدت دورها آمي آدامز- التي تمتلك صالة عرض فنية وتعيش حياة رتيبة باهتة مع زوجها الوسيم هوتون ولا تجد لذة ولا طعماً ولا متعة في كل ما يحيط بها رغم نجاحها الطاغي في مجالها الفني. تدخل حياتها في منعطف خطر بعد تلقيها لمسودة رواية عنيفة بعنوان “حيوانات ليلية” كتبها زوجها السابق إدوارد –جاك جالينهال- الروائي الفاشل الذي لم تره منذ انفصالها عنه قبل 19 عاماً، فتبدأ في قراءة الرواية وتتداعى في ذهنها ذكريات علاقتها السابقة معه؛ منذ البداية وحتى النهاية.
للوهلة الأولى تبدو المسارات الثلاثة للحكاية غير مرتبطة ببعضها، فالحياة الآنية للبطلة التي تمثل المسار الأول لا تلتقي –بداهة- مع مسار ذكرياتها الخاصة بعلاقتها بزوجها السابق، كما لا يلتقي هذان المساران مع المسار الثالث الذي تمثله أحداث الرواية ذاتها التي كتبها الزوج السابق والتي يروي فيها قصة زوج ضعيف تُختطف زوجته وابنته أمام ناظريه في ولاية تكساس دون أن يحرك ساكناً. لكن الفيلم -وعبر مفاتيح دلالية وضعها بذكاء المخرج توم فورد- يبدأ في تطويع هذه المسارات الثلاثة لتحكي قصة واحدة فقط؛ هي قصة انتقام الزوج السابق من المرأة التي كانت سبباً في دماره.
إنه يراها وحشاً بشعاً بغيضاً دموياً مليئاً بالأنانية والحقد، ويكرهها كرهاً بالغاً ويحملها مسؤولية الانفصال لرضوخها لقيم البرجوازية التي قيدت حريته الفنية وكل حرية مهما كان نوعها. لذلك قدم لها هذه الرواية لتقرأها وتعرف من خلالها مشاعره تجاهها، كما منحها معلومات تفصيلية عن حياته الراهنة شملت حتى وضعه الصحي الحالي!. فكانت روايته بمثابة البيان الأخير أو “الوصية الأخيرة” التي يبوح من خلالها عن الحقيقة التي كتمها سنين طويلة.
تقرأ البطلة الرواية وتتماهى مع أحداثها إلى الدرجة التي تبدأ فيها بالنظر للأحداث من منظور المؤلف، فتتعاطف مع الشخصية الرئيسية، الزوج الضعيف الذي سمح للمجرمين بإيذاء زوجته وابنته، لكنها -مع المضي في القراءة- تكتشف بأن الرواية ليست سوى تلخيص مجازي لعلاقتها مع المؤلف الحزين، الذي كان في نظرها ضعيفاً أيضاً. والمفارقة أن اكتشافها المتأخر هذا جاء عن طريق “الفن/ الرواية” الذي لم تأخذه بجدية ولا باحترام منذ ارتباطها بزوجها السابق وحتى نجاحاتها الحالية في عالم الفن.
مخرج الفيلم توم فورد كتب السيناريو استناداً على رواية تحمل اسم “توني وسوزان” نشرت عام 1993 للكاتب أوستن رايت، وقد صاغ السيناريو بطريقة مركبة ومدهشة عبر مسارات ثلاثة ربط بينها بصور مجازية وإشارات دلالية وحّدت المعنى وجعلت كل تفصيل في السيناريو يحتل موقعاً جوهرياً في البناء الكامل للحكاية، فاللوحة المعلقة على أحد جدران صالة العرض التي تملكها البطلة تحمل دلالة مهمة، لا تقل عن أهمية دلالة صورة المجرم الذي رأته البطلة في جهاز موبايل صديقتها، كما لا تقل عن أهمية شخصية الشرطي المريض في الرواية التي كتبها الزوج السابق والتي تفسر غموض “نهاية” الفيلم.