رمضان والأفلام.. حكايات سينمائية في شهر الصوم (5)
«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير
بعد أيام قليلة، يمر علينا يوم (العاشر من رمضان) مرور الكرام، دون أن نتوقف أمامه لنتذكر معه أن الأحداث التاريخية البارزة في التاريخ العربي خلال القرن العشرين وأهم المعارك العربية قديماً وحديثاً قد دارت في هذا الشهر المبارك، فموقعة بدر (وتُسمى أيضاً بدر الكبرى ويوم الفرقان) هي غزوة وقعت في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة بين المسلمين بقيادة رسول الله محمد ومن معه، وقبيلة قريش ومن حالفها بقيادة عمرو بن هشام المخزومي القرشي. وتُعد بدر أولَ معركةٍ من معارك الإسلام الفاصلة، وقد سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى منطقة بدر التي وقعت المعركة فيها، وبدر بئرٌ مشهورةٌ تقع بين مكة والمدينة المنورة، وظهرت هذه الغزوة في أفلام منها، «ظهور الإسلام» إنتاج عام 1951، وهو من اخراج إبراهيم عز الدين، و«بلال مؤذن الرسول» إنتاج عام 1953، واخرجه أحمد الطوخي، و«الشيماء» إنتاج عام 1972 للمخرج حسام الدين مصطفى، وفيلم «الرسالة» إنتاج عام 1975 من اخراج العالمي مصطفى العقاد.
وفي إطار هذه الرؤية لتاريخ السينما، لا يمكن تجاهل أفلام حرب فلسطين عام 1948 وكانت في رمضان، وما أكثرها عدداً، وانتصار أكتوبر عام 1973 الذي واكب العاشر من رمضان، وهو ما يعني أن هذا الشهر يحتاج بالفعل رصداً جديداً بعيداً عن أزمة تكرار الكتابة حول عدد من الأفلام تدور أحداثها خلال صوم رمضان وهي بالفعل قليلة بشكل ملحوظ.
ورغم أن هناك انتقادات تصل إلي درجة الاتهامات بأن السينما العربية لم تقدم ما يتلائم مع مناسبة الشهر الفضيل، وما يستحقه من أفلام ترسخ لسلوكيات وقيم إلا أن الحقيقة تشير كذلك إلى أن أفلام الحرب نفسها قليلة، ولا تعكس مافي هذه المعارك الضخمه من معاني وتضحيات.
وباعتبار أننا نحتفل اليوم بذكري العاشر من رمضان، فإن الجنود الذين تطوعوا للذهاب إلي فلسطين عام 1948، ظهروا في أفلام مثل (فتاة من فلسطين، للمخرج محمود ذو الفقار، ونادية لفطين عبد الوهاب، والإيمان للمخرج أحمد بدرخان)، وأعلنوا أنهم سيحاربون في شهر رمضان وهم صائمون، والكثير من تلك الأفلام التي تم انتاجها عن حرب 1948 قامت بتسييس الحرب، وجعلت الجيوش العربية خاصة في مصر قد أصيبت بالنكبة لسبب آخر هو ما سُمي سياسياً بالأسلحة الفاسدة، وعليه فقد تم تجريد قرابة خمسة عشر فيلماً مصرياً من الظروف الحياتية القاسية التي عاشها الجنود في شهر الصيام من أجل التأكيد علي فكرة واحدة أن هؤلاء المتحاربين كانوا يقاتلون بأسلحة فاسدة، ولم نر قط أي إشارة إلي أن المقاتل العربي أو المصري كان صائماً في قيظ أغسطس.
ويؤكد ذلك فيلم «أرض الأبطال» لنيازي مصطفي المعروض في 27 إبريل عام 1953 وهو أول فيلم فيه إشارة عن قضية الأسلحة الفاسدة.. والغريب أننا رغم وجودنا أمام عمل يدور في منطقة حارة للغاية، وأن الجنود المشاركين صائمون فإن السيناريو الذي كتبه نيازي مصطفي لم تكن به أي إشارة إلي المناخ والوقت اللذين تدور فيهما الأحداث.
وتكرر الأمر نفسه في أفلام أخري علي مدي أكثر من ستين عاماً، منها «الله معنا»، و«رد قلبي» الذي رأينا في أحداثه الضباط الأحرار أيضاً يقاتلون الصهاينة في شهر رمضان، وتجدد الأمر في فيلم دارت أحداثه بأكملها في هذا الصيف الساخن دون أي إشارة إلي أن ما نراه من أحداث تدور برجال ونساء يعيشون في شهر رمضان 1371 وهذا الفيلم هو «طريق الأبطال» إخراج محمود إسماعيل، إنتاج عام 1961، وهو عمل مختلف في صياغته وفي مسيرة المخرج الذي افترض أغرب افتراض في الحروب العربية الإسرائيلية، حيث أن النصر في رأيه كان مكتوباً للقوات العربية المتحاربة، حين تأهب الضابط الكاتب لرفع راية النصر وسط القوات المنتصرة إلا أن جندياً صهيونياً مصاباً قام بإطلاق النيران نحو الضابط فصرعه، و هكذا كتب النصر للصهاينة وهي معالجة ساذجة، والغريب أيضاً أن السيناريو الذي كتبه المخرج عن هذه الحرب لم يشر إلي أنها دارت بين طرفين، أحدهما دفع بجنود صائمين تدفعهم عقيدتهم وإيمانهم، أمام الصهاينة الذين لم يأبهوا بمسألة أن تدور الأحداث في شهر الصوم، ومن هذه الأفلام أيضاً التي لم تأبه بالجو الحار ولا بشهر الصيام «وداع في الفجر» لحسن الإمام 1956 و«من أحب» لماجدة 1965 ثم «الأقدار الدامية» لخيري بشارة.
ونضيف إلى مجموعه أفلام حرب 1948 خلال فترة الصوم، ما نطلق عليها مسمي «أفلام العاشر من رمضان» وهي معروفة في مكان زمني آخر بأفلام حرب أكتوبر، فقد كان الجنود مع هذا الصيام يمتلكون قوة روحانية دفعت بهم إلي النصر وشاهدنا ذلك في أفلام مثل: «الوفاء العظيم» لحلمي رفلة الذي عرض في السادس من أكتوبر 1974 أي في السادس عشر من رمضان في ذلك العام، وفيلم «بدور» لنادر جلال الذي عرض في 14 أكتوبر 1974، ويعني ذلك أن السينما احتفت بالحرب بشكل مكثف في العهد الأول لها، باعتبار أن هناك حوالي أحد عشر يوماً هي الفارق السنوي بين السنة الهجرية والسنة الميلادية، وظلت أجواء رمضان تخيم علي الاحتفاليات طوال عامين متتالين ففي الخامس من أكتوبر عام 1975 عرض فيلم «حتي آخر العمر» لأشرف فهمي، مما يعني أن الاحتفالية بدت مكثفة في العيد الأول لحرب العاشر من رمضان، وقد بدا الأمر مبهجاً، يستحق الاحتفال به، خصوصاً بعد ثلاث مواجهات سابقة مع إسرائيل كانت الهزيمة هي الطعم الأشد مرارة، وبدا كأن الجيش العربي يتذوق النصر الحقيقي بعيداً عن زعم حول أسلحة فاسدة، أو عدوان خاطف في عام 1967.
كما أن هناك ملحوظة مهمة للغاية، وهي أن بعض النصوص الأصلية التي أخذت عنها هذه الأفلام كانت مكتوبة في المقام الأول تعبيراً عن مرارة النكسة، وما أصاب الجيش والناس، عقب الهزيمة، مثل رواية قصيرة كتبها إحسان عبدالقدوس بعنوان «الرصاصة لاتزال في جيبي»، نشرها أولاً في صحيفة أخبار اليوم المصرية، ثم صدرت في مجموعة بعنوان «لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص» عام 1973، أي قبل حرب العاشر من رمضان بعدة أشهر.
وعندما عبر المصريون قناة السويس، بدت الرواية القصيرة كأنها تكمل جزءاً مهماً ناقصاً في القصة، لأنه من المهم أن تكتمل أحداث الهزيمة بانتصار اجتماعي وسياسي وعسكري، ونتوقف عند هذه النقطة، لأنه في الفيلم هناك مشهدان بالغا الأهمية في حياة الجندي محمد عبد الكريم، المتعلم الشاب، الفلاح الذي شارك في الحربين معاً (67، 73)، كان عليه أن يعود إلي قريته، في المرة الأولي مكتسياً بالهزيمة، وفي الثانية رافعاً راية النصر، فبعد الهزيمة يركب القطار، ويتعرض لسخرية بعض ركاب القطار بشكل مباشر، ويوجهون له الإهانات ضد ما لحق به من عار، فلا يملك القدرة علي الرد، أما في المرة الثانية، فإن ركاب القطار نفسه يتبادلون معه التهاني والمشاعر النبيلة، فهو رمز لما تحقق للوطن من هزيمة في المرة الأولي، ثم ما حققه مع زملائه من انتصار في شهر رمضان وهم صيام جميعاً.
ويرسخ فيلم «أبناء الصمت» لمحمد راضي في 16 نوفمبر 1974 لأهمية شهر رمضان، وأبطاله هم أيضاً من أهل القرية، فهذا العمل كتبه مجيد طوبيا، وتبدأ أحداثه في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1967، حين أغرق المصريون المدمرة الإسرائيلية إيلات، وتستمر الأحداث إلي أيام الاستنزاف وما بعدها حتي العاشر من رمضان، وتحطيم خط بارليف، حيث تقوم مجموعة من الجنود في تحركات مع قائدهم يعطي القائد بعضهم إجازات مؤقتة مع بداية شهر الصوم، منهم مجدي الجندي الذي يعود إلي القاهرة للقاء خطيبته نبيلة الصحفية صاحبة المبادئ، التي تواجه رئيس التحرير الانتهازي، الذي لا يحس معاناة الشعب تنتهي إجازة مجدي، كما يعود صابر الصعيدي من إجازته، ويعرف ماهر أن زوجته حامل، تبدو القاهرة كأنها انفصلت تماما عما يدور للجنود والضباط في الجبهة، عندما تقوم الحرب، ويتم العبور يدفع مجدي حياته، وتكتب نبيلة موضوعاً عن الشهداء. وتدور أحداث الفيلم بأكمله في الثكنات العسكرية وملاجئ الجنود والضباط، ولعله الفيلم الأول الذي يدور في هذه الأماكن، بشكل أكثر كثافة عن بقية أفلام حرب العاشر من رمضان، وسوف يتكرر الأمر بصورة مقاربة في فيلم «العمر لحظة» عام 1978 للمخرج نفسه محمد راضي.
وهكذا يتضح أن الصورة السينمائية لم تحفل كثيراً بمظاهر وقيم شهر رمضان إلا في أفلام قليلة العدد، وهو ما يستدعي إلي وقفات للبحث عن نصوص متميزه تؤكد أهمية الشهر الفضيل في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.