«ريح ربّاني».. حلقة في معركة السينما ضد التطرف
ـ فيكي حبيب
يصوّب المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش أضواء كاميرته ناحية الجانب المظلم في بلاده. يلتقط ذبذبات الشارع، ويغرف من الواقع ليقدم «مرافعته» في السياسة والمجتمع، ثم يسير إلى إمام بحثاً عن مشروع جديد، غير عابئ بما سيرافق فيلمه من انقسامات من حوله.
لا يعير علواش اهتماماً للانتقادات، ولا ينساق وراء حملات التشهير. لا يبالي بأصوات النشاز، ولا يكترث للخصوم. فالمهم بالنسبة إليه أن يكون حاضراً من خلال سينماه في معركة الثقافة ضد الفكر الظلامي. ولا وقت لديه لإضاعته في معارك واهية. لذا تراه غزيراً في إنتاجه، منجذباً الى القضايا الشائكة، منساقاً وراء سينما تمنح الأولوية للشباب، ما ينعكس عليه نشاطاً ومشاكسة ويمدّه بطاقة وحيوية، تبعدان عنه الشيخوخة على رغم تقدم السنين.
فهذا السينمائي الشاب في إنتاجه على رغم دنوه الحثيث من الخامسة والسبعين، لا يتوقف عند غياب تمويل أو عراقيل لوجستية، بل يعمل بما توافر، وإن أخذ عليه بعضهم تسرعاً ما في إنجاز أفلامه الأخيرة وتغليب البعد السياسي فيها على الجانب السينمائي. فهو لا يكاد ينتهي من فيلم حتى يعكف على فيلم جديد بمعدل سنة أو سنتين بين عمل وآخر… وهو صاحب قضية يؤمن بالسينما المنحازة لهموم الشباب، منذ أن لفت إليه الأنظار عام 1976 في فيلمه الروائي الطويل الأول «عمر قتلته الرجولة» مروراً بدزينة من الأفلام التي تناولت جراح العشرية السوداء في الجزائر وقوارب الموت والتشدد الديني والتعصب الفكري مع أفلام مثل «التائب» و «حراقة» و «باب الواد سيتي» و «العالم الآخر» و «السطوح»… أفلام دأبت على ملامسة أحلام الجيل الجديد وكوابيسه ومعاناته في ظل غياب الأفق في عالم عربي يغرق في مستنقعات التشدد، وجعلت علواش واحداً من أبرز الوجوه في السينما العربية. وليس أدل على هذا من أنه استطاع أن يعبر بعدد من أفلامه إلى المهرجانات السينمائية الكبيرة الأربع: كان وبرلين والبندقية وتورونتو.
ولا يحيد علواش عن هذا المسار في أحدث أفلامه «ريح رباني» الذي عرض أخيراً في مهرجان الجونة السينمائي بعدما شهد عرضه العالمي الأول في أيلول (سبتمبر) الماضي في مهرجان تورونتو بعد أسابيع قليلة من انتهاء تصويره، كما سيعرض في الدورة المقبلة لأيام قرطاج السينمائية (3 إلى 10 نوفمبر 2018).
فهو في شريطه الروائي الطويل هذا، يعود من جديد بعد فيلمه الوثائقي «تحقيق في الجنة» (2016) إلى تيمة وَسَمت كثيراً من أفلامه ولا تزال إرهاصاتها حاضرة بقوة في مجتمعاتنا العربية لما تشكله من تهديد كبير على النشء الصاعد. وليس انجراف الشباب وراء التطرف الديني وغسيل الدماغ الذي تمارسه المنظمات المتشددة وإيقاع حديثي السن في شباكها واستقطابهم نحوها بدعوى الجهاد، تيمة منتهية الصلاحية، بل على العكس ما زالت هذه المشكلة ترخي بظلالها في بلادنا وتتصدر تداعياتها يومياتنا… لا في الجزائر وحسب، بل في المنطقة ككل، وإن شكلت الجزائر الحاضنة الأساسية لحبكة الفيلم التي أرادها علواش قصة حب وجهاد، طارحاً من خلال بطله سؤالاً يشغل باله عن تلك الجثث التي يُعثر عليها بعد العمليات الإرهابية من دون أن يكون لها اسم أو وجه، فيبقى سرّها مدفوناً معها إلى الأبد، ولا نكاد نعرف عنها شيئاً، وكأنها لم تطأ هذه الدنيا من الأساس.
غموض سينعكس بدوره على شخصيات الفيلم التي يحرّكها علواش من دون أن يقدم أي شيء عنها، باستثناء معلومات طفيفة تفسّر ما يدور أمام الكاميرا خلال الدقائق الـ96. فنحن هنا أمام مهمة تنفيذ عملية مسلحة ضد معمل تكرير في الصحراء الجزائرية، بطلاها «أمين» (محمد أوغليس) الشاب العشريني اليافع وقائدته «نور» (سارة لايساك) الثلاثينية. بطلان غريبان لا يجمعهما شيء سوى حب الجهاد، فيجتمعان معاً تحت سقف واحد في منزل قرب مدينة تيميمون في الصحراء الجزائرية، تديره «الحجة» (مسعودة بوخيرة) في انتظار وصول السلاح لتنفيذ مهمتهما. الأول ترتسم براءة الأطفال في عينيه وملامح وجهه، والثانية يفيض من عينيها حقد دفين ينسينا ملامح وجهها الجميلة ويحوّلها إلى مسخ حقيقي. بطلان، بتناقضاتهما، يدقان ناقوس الخطر حول أن الإرهابي ممكن أن يكون قريباً منا، أكثر بكثير مما نتصور. فـ «أمين» لا يشبه في شيء صورة الإرهابي المحفورة في مخيلتنا. وجهه الناعم وتسريحة شعره وحرصه على الرد على اتصالات والده المتكررة له على رغم كذبه عليه والزعم أنه في إسبانيا بحثاً عن عمل، لا تحيلنا على مشروع «إرهابي». في المقابل تبدو «نور» أكثر انسجاماً مع صورة الإرهابي/المسخ، فالشرّ الذي يخرج من عينيها وكلامها وتصرفاتها، تقودنا إلى ما نبحث عنه عند الانتحاري/أيّ انتحاري… وإن مرّ علواش بحياء على وجهها الآخر في مشهد يشعرنا أننا نسترق فيه النظر إليها وهي ترقص حيناً مع رفيق متخيل أو يُظهر فتنتها حيناً آخر وهي تستحم أو تتسلل إلى سرير «أمين» بقميص نوم مثيرة بعد أن تنزع عنها نقابها الأسود والقفازين اللذين يغطيان يديها.
اختار علواش أن يكون فيلمه بالأبيض والأسود وأن يكتفي بالتصوير بين منزل مغلق والصحراء كي لا يلهينا شيء كمشاهدين عن الدنو من سيكولوجيات بطليه. لكنه للأسف لم يوفق في مسعاه بالمقدار الكافي، إذ بدت الشخصيات سطحية، تائهة أمام حبكة غير متينة. فقصة الحب التي ربطت «أمين» بـ «نور» بعد أن منحته جسدها، بدت مكتوبة على عجل، وافتضاح أمر «الحجة» التي آوت الإرهابيين الشابين وتجسست عليهما لمصلحة الجهات الرسمية، لم يبد مقنعاً… ليصل ضعف السيناريو إلى ذروته في ختام الفيلم مع تردد «أمين» في تنفيذ المهمة ثم مبادرته إلى تفجير نفسه بالحزام الناسف الذي يزنّر خصر «نور»، بعدما عجز عن ثنيها عن تنفيذ مهمتها على رغم أن ثواني قليلة فصلت بين هذا المشهد والمشهد الذي يشكو فيه بطلنا كالأطفال أنه لا يريد أن يموت، حين اكتشف أن سير العملية تحول من عملية قتالية إلى عملية انتحارية. فما الذي يبرر هذا التحول السريع في شخصيته؟ وكيف يمكن تفسير كبسه على صاعق المتفجرات بهذه السهولة؟ هل صحا ضميره فجأة وفعل هذا لإنقاذ معمل التكرير من تفجير كاد يودي بحياة عشرات المدنيين من العمال الأجانب الذين يعملون في المكان؛ أو أنه أراد أن يموت إلى جانب حبيبته على غرار النهايات الكبيرة في الروايات الرومانسية؟
«ريح رباني» فيلم متقشف في حواراته ومعالجته الدرامية وموازنته. وهو حكماً ليس أفضل أعمال مرزاق علواش السينمائية، ومع هذا، لا يمكن أن نمرّ عليه مرور الكرام، فهو يبقى، من دون أدنى شك، حلقة مهمة في معركة السينما ضد التطرف. فكيف بالأحرى إن كان يحمل توقيع سينمائي كبير سخّر كاميرته خلال ما يزيد عن أربعين عاماً في خدمة الفكر التنويري؟