سينماهم في عيونهم ـ رؤية نقدية: هل فيلم «جوراسيك وورلد» رائع بالفعل؟
خاص ـ «سينماتوغراف»
مضى 22 عاما منذ أن خاض المخرج ستيفن سبيلبرغ مغامرته الأولى مُتمثلةً في فيلم «جوراسيك بارك». لكن هل للفيلم الرابع في هذه السلسلة عناصر قوة وتأثير؟ الناقد السينمائي نيكولاس باربر يقدم رؤيته النقدية على الفيلم.
من جديد عادت أفلام «جوراسيك بارك»، أو ما يعرفها الكثيرون باسم «حديقة الديناصورات»، إلى شاشات السينما، لتفتح أبوابها أمام محبي مثل هذا النوع من الأعمال، وقد جاء ذلك في وقته أيضا.
فقد كان دوماً من المخيب للآمال أن يُصوّر الجزئين التالييّن لأول أفلام سلسلة «جوراسيك بارك» الذي أخرجه سبيلبرغ، في ما يبدو وأنه غابة غير مأهولة، بدلا من تصويرهما في متنزه ترفيهي بكل معنى الكلمة، كما يعد بذلك اسما الفيلمين.
ويُعزى جانب من ذلك الإحباط إلى حقيقة أن اختيار موقع تصوير جديد كان سيؤدي إلى تطوير أحداث الجزئين، حيث إنهما كانا في الأساس مجرد إعادة للفيلم الأصلي الذي أُنتج عام 1993، وحقق نجاحا مدويا.
لكن الأمر كان محبطا بشكل أساسي لأنه كان بلا معنى. أعني بذلك لماذا لم تفتح «حديقة الديناصورات» أبوابها بالفعل؟ بعبارة أخرى أن تقدم الأحداث على نحو أكثر واقعية؟
بطبيعة الحال، كانت هناك بضع مشكلات تتعلق بتصميم أسنان الديناصورات التي ظهرت في هذه الأعمال، وخاصة تلك التي تنتمي لفصيلة (تيرانوصور ريكس أو تي ريكس) لكن مهلا، فإذا كان الأمر يتعلق بجزيرة تغص بديناصورات حقيقية وحية؛ من منّا لن تنتابه الرغبة في الذهاب إلى هناك؟
وهكذا بعد 22 عاما، دخل «جوراسيك وورلد» الحلبة أخيرا. مسرح أحداثه يتمثل في جزيرة وارفة الأشجار والأعشاب تقع قبالة سواحل كوستاريكا. والجزيرة عبارة عن منتجع فاخر تسوده مظاهر التكنولوجيا المتقدمة، التي تتيح الفرصة للزوار لإطعام ديناصور من فصيلة «سيتغوصور»، أو ركوب آخر ينتمي لفصيلة «تريسراتبس».
هناك قد يتناثر عليك رذاذ الماء بفعل قفزة يقوم بها ديناصور من فصيلة «موساصوروص»، الذي يماثل حجمه حجم الحوت، وهو يخرج من البركة الضخمة التي يعيش فيها، ليبتلع إحدى أسماك القرش في قضمة واحدة. بعد ذلك، سيتسنى لك إلقاء نظرة على عالم ما تحت الماء، بفضل مقعد يتحرك بنظام هيدروليكي.
أكثر من ذلك، بوسعك القيام بإحدى رحلات السفاري، التي تتيح لك السير وسط قطيع من ديناصورات فصيلة «أباتوصور» وهو يرعى في المروج. وبمقدورك قطع هذه الرحلة ليس على متن سيارة جيب، ولكن بداخل أحد أنواع الكرات الشفافة اللدنة المصنوعة من مادة الأكريليك، التي تتحرك آليا. فضلا عن ذلك، فإن غرف الفندق الكائن في هذا المنتجع تبدو مريحة بدورها.
أما الفيلم نفسه فلم يختلف في طابعه وتأثيره عن طابع وتأثير أي متنزه ترفيهي حقيقي. فالعمل، الذي شارك كولين تريفورو في كتابته وتولى إخراجه بنفسه مع مشاركة من قبل سبيلبرغ كمنتج تنفيذي، يبدو كما لو كان آلة ترفيه متألقة وبراقة وفعالة على نحو يحبس الأنفاس؛ توفر قدرا مذهلا من الإثارة التي تلائم طبيعتها كل أفراد الأسرة.
وتماما كما هو الحال بالنسبة للغرض من وجود غالبية المتنزهات الترفيهية، فإن الغرض هنا هو حمل المرء على إخراج أمواله من جيبه، ووضعها في الحساب المصرفي لا للمؤسسة المالكة للمتنزه بل المنتجة للفيلم في حالتنا هذه.
ولكن ذلك يجري على نحو مفعم بالبراعة والذوق والجاذبية، بقدر يجعل من الصعب على المرء الشعور بالاستياء إزاءه.
ويتعين أن نضع في اعتبارنا هنا أننا لا نذهب إلى مثل هذه المتنزهات للاستمتاع بما يكمن في شخصيات العاملين فيها من ثراء، وهو مبدأ ينطبق على فيلم «جوراسيك وورلد» أيضا.
في إطار أحداث العمل، تجسد الممثلة «بريس دالاس هوارد» شخصية «كلير» المدير العام للمتنزه، وهي فتاة حسناء، لكنها في الوقت ذاته نموذج للمدير الذي لا يُعنى سوى بجني المال، حيث لا تكف عن القول إنه يتعين جعل المنتجع يدر أرباحا أكبر.
وحتى تتأكد من أننا أدركنا بدقة كم هي قاسية القلب ولا تكترث سوى بالماديات، حرصت «كلير» على ترديد عبارات من قبيل «مجموعة نقاش مركز» ، و«أصول مادية» و«حملة الأسهم» بين كل سطر وآخر في الحوار.
بل إن هذه الشخصية توافق – في إطار أحداث العمل – على تخليق ديناصور من فصيلة جديدة أُطلق عليها اسم «إندومينوس ريكس»، وهو عبارة عن نسخة جينية ضخمة الحجم من ديناصور من فصيلة «تيرانوصور»، وذلك بناء على افتراض مفاده بأن السائحين أصيبوا بالسأم من رؤية الأنواع المعتادة والمثيرة للملل من الديناصورات.
بالنسبة لي، ليس بوسعي شخصيا تحديد أي الأمرين أبعد عن التصديق: إمكانية أن يتعامل الناس- تحت أي ظرف من الظروف- بلا مبالاة مع حيوان زاحف انقرض ثم عاد إلى الحياة يبلغ ارتفاعه نحو 40 قدما، أو إمكانية أن تفكر إدارة متنزه ترفيهي ما في زيادة الإيرادات عبر اتباع مثل هذا الأسلوب الوحشي الحافل بالمخاطر.
لكن ذلك على أي حال شكّل سببا آخر مقنعا للجوء إلى الهندسة الوراثية. أما رئيس «كلير» في العمل، ذاك الشخص المزمجر دائما الذي يحمل اسم «هوسكينز» (يجسد شخصيته الممثل فينسنت دو أونفريو) فيرى أن مثل هذه الديناصورات المتحورة جينيا، ستصلح لأن تكون سلاحا محتملا في الحروب، مُستعيراً أحد أفكار الأعمال السينمائية التي تتناول الكائنات الفضائية.
فيلم إثارة من الدرجة الثانية
وعلى نحو غير مفاجئ لأحد، يهرب الديناصور المتحور جينيا «إندومينوس ريكس» (والذي يعرف أيضا باسم آي- ريكس) من مأواه المحاط بالسياج، ليعيث فسادا ودمارا في الجزيرة. ويكمن سبب اعتبارنا ذلك أمرا غير مفاجئ في حقيقة أن ذاك الديناصور – بحسب أحداث الفيلم – كان حيوانا مفترسا يتمتع بذكاء فائق، ولديه القدرة على تغيير لونه بل وخفض درجة حرارة جسده بإرادته أيضا.
وفي ضوء مثل هذه القدرات؛ ما الذي كان يتصوره العلماء إذن بشأن ما يمكن لذلك الحيوان القيام به؟
ولكي تزداد الأمور سوءا؛ اختار صبيّان لحظة فرار الديناصور تلك، لكي يتسكعا في المتنزه ويضلاّ طريقهما في ضواحيه ذات الطابع البري، وكانا بالمصادفة يمُتّان بصلة قرابة وثيقة لـ«كلير».
أما الشخص الوحيد القادر على إنقاذ الموقف، فهو صديقها السابق أوين (الذي يجسد شخصيته الممثل كريس برات)، ذاك الشاب قوي البنية الذي يتمتع بجاذبية لدى النساء ويرسل لحيته قليلا، ويستقل دراجته البخارية على الطريقة التقليدية.
ووفقا لقصة الفيلم، فقد كان أوين جنديا سابقا في البحرية الأمريكية، دُرِبَ على نحو ما ليصبح قادرا على التعامل مع الديناصورات من فصيلة فيلوسيرابتور. وهكذا فإذا ما نجح أوين في إجبار الـ (آي – ريكس) على التصرف بطريقة أكثر انضباطا؛ من يعلم ربما ساعده ذلك على أن يذيب الجليد الذي يكسو شخصية كلير، وهو أمر يعمل على تحقيقه بالفعل.
وبالرغم من السحر الذي يكمن في برات، ذاك الممثل الذي يجسد شخصية أوين؛ فإن شخصيات الفيلم لا تزيد من حيث مدى ثرائها أو تنوع سماتها وتركيبها عن «شخصيات» الديناصورات التي تظهر في العمل.
أما إذا تناولنا طبيعة الأدوار التي تؤديها هذه الشخصيات، فتبدو كما لو كانت تعود إلى عصور ما قبل التاريخ من حيث طابعها التقليدي.
«أوين» على سبيل المثال يجسد شخصية خيرة تماما، و«هوسكينز» شخصية شريرة صرفة، بينما الصبيّان هما صبيّان لا أكثر ولا أقل. أما شخصية «كلير» فتمر – مثلها مثل شخصيات جسدتها من قبل بطلات عدد لا يحصى ولا يعد من الأفلام – بذاك التحول الحتمي من شخصية باردة للغاية لا تجيد سوى إطاعة الأوامر، إلى شخصية تتحلى بالتصميم والعزم والشجاعة والقدرة على التصرف.
لكن لا يزال بوسع المرء أن يذهب للقول إن هذه الشخصيات أحادية الطابع، والتي تتوزع ما بين شخصيات خيرة أو شريرة، تتماشى مع طابع هذا العمل الذي عفا عليه الزمن، وكذلك مع كونه فيلم إثارة من الدرجة الثانية.
وبالقطع يحتوي «جوراسيك وورلد» العديد من العناصر المرتبطة بمثل هذه الأفلام. ولكن ما أن يتجاوز المشاهدون عن الطابع المعقد للمشاهد الافتتاحية للعمل، سيبدو الفيلم أحد أبرع الأعمال السينمائية الناجحة التي عُرضت في السنوات الأخيرة.
فالفيلم يحافظ على إيقاعه اللاهث، ولمحاته الساخرة، والتقلبات والتحولات التي تشهدها قصته. كما يواصل الفيلم إيجاد سبل جديدة لتنويع طرق التعبير عن الفكرة الرئيسية للسيناريو الخاص به، ألا وهي (كيفية الهرب من هجوم الديناصورات).
وإذا ما وضعنا في الاعتبار مدى السخافة التي تتسم بها العديد من الأفلام التي طُرحت مؤخرا، من تلك الأعمال التي تعتمد على المؤثرات البصرية، وأحدثها فيلم «سان أندرياس»، يمكن القول إنه مما يسعد القلب أن نجد أن صناع «جوراسيك وورلد» كانوا يعرفون كيف يؤدون عملهم.
بعبارة أخرى، يبدو فيلم «جوراسيك وورلد» مفعما بطاقة مُبْهِجَة، وقدرة على السرد الروائي المفهوم، والتي قد يربط المرء بينها وبين ستيفن سبيلبرغ، وهو أمر من الواضح أنه دار في أذهان ترِيفورو والكتاب الثلاثة الأخرين الذين شاركوه كتابة القصة.
بجانب ذلك، لم يصطبغ العمل فقط بطابع سبيلبرغ المتمثل في اهتمامه الكبير بالتفاصيل، وإنما ضم أيضا لمحات وإشارات مرتبطة بأعماله السابقة: بعضها يتعلق بدعابات يفهمها فقط من شاهدوا الجزئين التاليين لـ«جوراسيك بارك»، وبعضها الآخر عبارة عن إشارات ترتبط بفيلمي «جاوس» – المعروف باسم (الفك المفترس)- و«إي تي» (كائن من الفضاء الخارجي)؛ اللذين أخرجهما سبيلبرغ من قبل أيضا.
يمكن القول إن أكثر ما يجعل «جوراسيك وورلد» محببا للناس هو ذاك الإخلاص الصادق والمفرط الذي يُكنّه تريِفورو حيال المنتج التنفيذي للعمل ستيفن سبيلبرغ، وهو ما يبرز بوضوح في كل مشهد من مشاهد الفيلم.
فمن الواضح أن كولين تريفورو كان يعمل مدفوعا برغبته العارمة في أن يصبح مصدر فخر لسبيلبرغ. لكن الفيلم كان ربما سيصبح جذابا بشكل أكبر وذا تأثير أقل شبها بما تخلفه المتنزهات الترفيهية من تأثيرات، إذا ما كانت شخصياته مفعمة هي الأخرى بقدر من تلك المشاعر التي سيطرت على تريفورو.