إضاءات

شاهد/ من كلاسيكيات السينما التجريبية: «أموتُ من العطش، أختنق، لا أستطيع الصراخ»

«سينماتوغراف» ـ صلاح سرميني

«أموتُ من العطش، أختنق، لا أستطيع الصراخ» (67 دقيقة)، واحدٌ من كلاسيكيات السينما التجريبية الفرنسية، أخرجه السينمائي الفرنسي «جيرار كوران» عام 1979، وعُرض في مهرجان كان في قسم Ciné-Off، ومهرجان فينيسيا في قسم  Spazio Aperto.

إنه باقتضابٍ قصة بحث امرأة تطارد هويتها الخاصة، المرأة (تمثيل ماري نويل كوفمان) تُغامر في عالم التمثيل، تلتقي مع أربع شخصياتٍ كلّ واحدةٍ منها، وبطريقتها، تكشف لها عن مفتاحٍ كي تعبر المشاهد الخمسة الرئيسية للفيلم، وتعتبر بمثابة عتباتٍ عليها أن تجتازها لا محالة كي تحصل على إجابةٍ عن السؤال الجوهري:

هل يمكن للسينما أن تسمح بالعثور على توازنٍ مفقود؟

فيلمٌ بدون حوار، الموسيقى تُصاحب الصور من بدايته إلى نهايته، إخلاصٌ للقطات المُتوسطة، الثابتة، الطويلة زمنياً، رُبما كانت إرهاصاتٍ لمشروع «سينماتون» فيما بعد، القليل من حركات الكاميرا، والكثير من اللقطات المتوسطة، والكبيرة.

يتخلص الفيلم تماماً من السرد الحكائيّ، تجوالٌ في بعض الأماكن مع مجموعة من أصدقاء «جيرار كوران»، ولكنه تأملٌ شعريّ للجمال الأنثويّ، الوجه بشكلٍ خاص، ومنحه الإعجاب الذي يستحقه، تضفي عليها الموسيقى نوعاً من القداسة السينمائية، وتنسينا ماذا تفعل هذه الشخصيات، وما لا تفعله، إنها هنا ملتصقة بالطبقة الحسّاسة للفيلم، تفكر، تتأمل بشكلٍ طبيعيّ، أو بتصنعٍ ظاهر كما حال جلسات اختيار الممثلين، الحوار الذي تنطقه النساء، ولا يسمعه المتفرج، يضفي غموضاً على الصورة، وفضولاً، ماذا لو سجل «جيرار» تلك الحوارات ؟، ولكن فقدانها هنا، أو حتى حذفها، أو إقصائها لصالح الموسيقى جوهر حالة استغراق المتفرج في لا حكائية الفيلم، يستخدم «جيرار كوران» كلّ ما يُصوره، ليست لديه لقطات للحذف، كلّ الصور صالحة لأن تأخذ مكانها في الصياغة السينمائية، وربما إذا استبدل لقطةً بأخرى، أو انعكس الترتيب المونتاجي للفيلم تماماً طالما أن الموسيقى هي التي تجمعها، وتمنحها شرعية حضورها، وتدفقها كما تشاء.

هنا فيلمٌ عصيّ على التصنيف.

وعلى عكس السينمائيين التجريبيين الذين استخدموا أشرطة سوبر 8، وصوروا أفلامهم بلقطاتٍ قصيرة زمنياً، وأحياناً كادراً، كادراً، أو بعض الكادرات، بحيث تكون النتيجة على الشاشة تدفقاً مُروعاً، شلالات من الصور المُتلاحقة، تحتاج إلى انتباهٍ كي يدرك المتفرج محتواها، وينطلق هذا الاختيار من العامل الاقتصادي الذي يطبع السينما التجريبية، حيث يريد السينمائي إنجاز فيلمه بأقلّ التكاليف المُمكنة.

بينما كان «جيرار كوران» يتعامل مع كاميرا سينمائية متمهلة جداً، وليست آلة تصوير فوتوغرافي، ويتمهل كثيراً أمام شخصياته، وحتى يُغالي كثيرا في التمهل، فيمنح بعض لقطاته مدة العلبة بكاملها (3 دقيقة، و25 ثانية)، وهذا ما فعله مع السلسلة الأشهر Cinematon، وبقية السلاسل السينمائية الأخرى المُستوحاة منها، حالة التمهل هذه، هي التي أكسبت أفلامه أجواء تأملية، شعرية، وموسيقية.

تنهل أفلام «جيرار كوران» مرجعيتها من السينما الصامتة بدون أن يعلن الحرب على السينما الناطقة.

هي احتفاءٌ متواصلٌ بالسينما نفسها، وبمُبدعيها، «فيليب غاري”» في هذا الفيلم مثلاً «أموتُ من العطش، أختنق، لا أستطيع الصراخ».

بخلافٍ جذريّ مع الأفلام الروائية، والتسجيلية، وبغضّ النظر عن نقطة البداية، الانطلاقة الأولى، فإن «جبرار كوران» فنان الارتجال في السينما، وخاصة في مرحلة التصوير، تبدأ عملية البناء عنده من مرحلة مونتاج الصورة، والصوت، ينجز صياغة فيلمه وُفق تكرار، وتنويعات للصورة، كلّ صورة، أو لقطة تأتي كي تُصحح، أو تكمل تكوين البورتريه.

عندما تهرب الكاميرا من نظرةٍ ما كي تعود من جديد لرصدها بشكلّ أفضل، وتحميلها بأحاسيس، ومشاعر جديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى