عبقرية رأفت الميهي ورباعية «الشيخ»
“رجل السينما” الذي اختصر عبارة “قصة وسيناريو وحوار” الشهيرة إلى كلمة «تأليف»
«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
في كتابه “رأفت الميهي رجل السينما”، الصادر عن صندوق التنمية الثقافية على هامش مهرجان القاهرة السينمائي في دورته السادسة والثلاثين، يرى الناقد محمد عاطف أن الحديث عن عبقرية الميهي لا بد وان تبدأ بما أسماه رباعية “الشيخ” ويقصد بها أفلام المخرج كمال الشيخ الأربعة التي أعد لها الميهي السيناريو وهي “غروب وشروق” 1970، “شىء في صدري” 1971، “الهارب” 1974، “على من نطلق الرصاص” 1975.
وقال إنه لا يمكن فصل هذه الرباعية عن الظروف والحوادث الجسام التي شكلت تجربة جيل الستينيات من القرن الماضي، الذي ينتمي إليه الميهي، أو “الأستاذ” وهو اللقب الذي اختاره الكاتب للإشارة عن رأفت الميهي في مواقع الكتاب المختلفة، من جهة، وعن السياق التاريخي لإنتاج تلك الرباعية، من جهة أخري. وأشار الكاتب إلى أنه بقدر ما استشعره هذا الجيل من قوة منذ نعومة أظفاره، قائمة على وطن يبنى من جديد، متحرر ومستقل، يمتلئ أبناؤه بالآمال والطوحات العريضة؛ بقدر ما عاناه أيضا هذا الجيل من انكسار، وتحتطم للأماني، وتجرع مرارة هزيمة يرآها المصريون تقطر من حلق كل من عاصرها وهو يتحدث عنها، برغم قرب مرور نصف قرن على حدوثها.
كما أن المناخ السياسي الذي صاحب إنتاج تلك الرباعية، الذي كان مشبعا بتوجه نظام الرئيس الراحل أنور السادات السياسي نحو (النقد/ النقض) العنيف للسلبيات التي احتوت عليها الحقبة الناصرية، وما اتخذته من سياسات، ومن قام على تنفيذها، وبالطبع أيضا التغيريات الجذرية التي عصفت بالكثرين من الرموز القوية في الهيكل الإداري للدولة المصرية مع موجة التصحيح في مايو 71، فضال عن تبعات ذلك التغيير اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا قد ساهم بقدر كبري في السبق – الذي كان الميهي في مقدمة رواده بين صناع أفلام حقبة السبعينيات، وما تلاها- نحو رفع سقف النقد السياسي والاجتماعي الذي حدث في الفترة البينية التي شهدت العلامات الكبرى لثورة 52، والعلامات الصغرى للكارثة المركبة التي تمخضت عن سياسات الانفتاح التي انتهجها السادات بداية من وسط السبعينيات، ومازالت تدور رحاها حتى كتابة الآن.
ورأى الكاتب أن رباعية الميهي- الشيخ تعد بمثابة “بوابة عشتار سينمائية” – أي البوابة المجهولة والتي تقود إلى المعلوم- لمن يشأ التعرف على مختلف أطراف تجربة يوليو 52 في شكل شخوص أو أنماط مجردة، غير محددة بعينها، والاشتباك معها من مدخل رؤية فلسفية ونقدية عميقة، لم تدن طرفا بعينه دون الآخر، بل مثلت كشف حساب أعطى كل ذي حق حقه، ثم محاكمة لم تسع لتوجيه لوم، أو إنزال عقاب، بقدر سعيها الى التقدم نحو الصواب.
وأشار إلى أن أول من مثل أمام تلك المحاكمة هم أبناء (البرجوازية الصغيرة/ الطبقة الوسطى)، الذين كانوا الوقود الذي أشعل الثورة في مراحلها المبكرة ودل على ذلك لنموذج (غروب وشروق)، ثم أصبح كثير منهم بمثابة الماء التي أتى عليها – بعد ذلك- بنسب متفاوتة، كل حسب موقعه (على من نطلق الرصاص – نموذجا).
وواصل التدليل على وجهة نظره بكيف أمكن أن يحول النفوذ والشهرة الصحفي الثوري (أشرف البحيري -غروب وشروق) في مرحلة متقدمة الى رئيس تحرير أفاق مثل (رؤوف كامل- الهارب)؟ أو كيف أغرت “السلطة المطلقة” الضابط الوطني فريد مكرم (غروب وشروق)، لأن يصبح في مرحلة متقدمة رئيس مجلس إدارة فاسدا مثل (رشدي عبد الهادي- على من نطلق الرصاص). واختتم كلامه بأنه يمكن اعتبار أن منهج (عزمي باشا- غروب وشروق) لم يتطور الى الأفضل بعد رحيله، حيث كان تأكده صحيحا عندما قال لفريد مكرم وهو يترك مكتبه لآخر مرة: “يمكن بعضهم يعتقد اني مطرود.. مهزوم، لكن أعتقد أن أنا عملت شىء.. أنا خلقت نظام للي بعدي يعملوا بيه”.
وبهذه الإيضاحات، كشف محمد عاطف أن رأفت الميهي نجح في التعبير عن أفكاره الجانحة إلى الثورية والتمرد في هذه الأفلام الأربعة لتظل قائدة لقاطرة أعماله التي ساعده في كتابتها أو إخراجها تخرجه في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ثم حصوله على دبلوم معهد السيناريو مطلع الستينيات،حيث شكل ذلك الخلفية الخاصة التي ساهمت في عبقرية الحرفة، وعمق الكتابة.
وأشار إلى أنه بمساعدة المخرج الكبير صلاح أبو سيف، ضرب الميهي بجناحيه ليعود الى القاهرة متمردا على الوظيفة، ومخترقا لعالم السينما من بوابة السيناريو بثقافة ورؤية صنعتا حراكا في المياه الراكدة، وإنعاشا للحركة السينمائية بعد ما أصابها من إحباط وجمود عقب هزيمة 1967، حيث مزج رأفت الميهي الشاب بين دراسته للأدب الإنجليزي ودراسته لفن السينما، فاستطاع بذلك الولوج داخل أعماق النصوص، والتهام ما فيها من أفكار أساسية، والاشتباك معها، ثم التمرد عليها في أحيان كثيرة، ليقدم لنا مجموعة من أروع ما أنتجته السينما المصرية والعربية في تاريخها. وتتبع المؤلف محمد عاطف في كتابه عن رأفت الميهي قصة صعود نجمه في فترة قياسية، بل مع أول أعماله فيلم “جفت الأمطار” إنتاج 1968 وإخراج سيد عيسى، عن قصة للكاتب الكبير عبد الله الطوخي والتي كانت تحمل رؤية جديدة على المستوىين السينمائي والسياسي في آن واحد.
واستعرض كيف رشحته تلك التجربة المهمة للتعاون السينمائي الذي مثل نقطة تتول مهمة في حياة الميهي الفنية، عندما قدم له المخرج صلاح أبو سيف فرصته الثانية بتعريفه على الخرج الكبير كمال الشيخ، ليمثل ذلك التعاون انطلاقة جديدة لكل منهما أثمرت عن إنتاج التحف السينمائية الأربعة السابق الإشارة إليها.
وأوضح أن النصف الأول من السبعينات شهد تعاونا بين رأفت الميهي المؤلف مع عدة مخرجين آخرين، تولد عنها روائع مثل “غرباء” إنتاج 1973 من إخراج سعد عرفه، الذي كان أول الأفلام التي ناقشت ظاهرة التطرف بشقيها؛ الديني والوجودي، برؤية سابقة لعصرها، فما كان من ذهنية المصادرة إلا أن منعته في سنوات، قال عنها المؤلف أن مصر تجترعت فيها –وما زالت- من ويلات ما حذر منه “غرباء”، سواء على مستوى اعتناق كثريين للفكر الوهابي والتمسك بقشور الدين القائمة على الشكليات، أو اعتناق آخرين النقيض التام والتمسك بقشور الحداثة والتحرر المبتذل.
و أيضا “أين عقلي” إنتاج 1974 من إخراج عاطف سالم عن القصة القصيرة لإحسان عبد القدوس”حالة الدكتورحسن” الذي تناول قضية الفصام في المجتمع، وناقش بجرأة قافزة على عصرها – بل وعلى عصرنا هذا- قضية العذرية بموروثها الشعبي والديني.
كما كتب الميهي في العام نفسه “الرصاصة لاتزال في جيبي” من إخراج حسام الدين مصطفى عن قصة لإحسان عبد القدوس أيضا، والذي يعد واحدا من أهم الأفلام التي انتقدت كثيرا من جوانب الفساد في المجتمع، واتهمت عناصره الفاسدة بالاشتراك في أسباب هزيمة 67؛ حيث كانت الهزمية العسكرية إحدى تجليات فساد عام دب في وطن كان لا بد له من صفعة حتى يستقيم. ومع حلول النصف الثاني من عقد السبعينيات يحصل السيناريست الشاب رأفت الميهي عن جدارة على لقب “أديب السيناريو”، حيث كان له السبق في اختصار عبارة “قصة وسيناريو وحوار” الشهيرة الى كلمة “تأليف”.