«على كف عفريت» لكوثر بن هنية.. سينما ما بعد الثورة التونسية
ـ عبد الستار ناجي
باحترافية شبابية عالية المستوى وموضوع جريء متماسك وفريق عمل أكثر من متميز تذهب المخرجة التونسية كوثر بن هنية إلى منطقة جديدة من مسيرة السينما التونسية صاحبة التاريخ الحافل بالإنجازات والأسماء والبصمات.
سينما لا تجامل ولا تهادن قاسية وشفافة وتفتح أبواب المواجهة على مصراعيها أمام جملة من القضايا والقطاعات وفي مقدمتها الشرطة والأمن والإعلام.
المخرجة كوثر بن هنية تقدم عملها الروائي الأول بعد عدة تجارب وثائقية ومنها “زينب تكره الثلج” 2016 و”شلاط تونس” 2014.
وهنا تقدم عملها الروائي استنادا إلى قصة حقيقية حيث حكاية الفتاة الجامعية مريم مريم فرجاني التي تشارك في حفل تنظمه الجامعة في أحد الفنادق وخلال تجوالها على الشاطي مع أحد الشباب يوسف غانم زرلي يتعرض لها رجال الأمن الشرطة ويتحول الأمر إلى اغتصاب وتداعياته عليها وعلى صديقها يوسف وأيضا الشرطة التي تحقق في الأمر والتي تريد حماية زملاء المهنة وكذلك تعرية الإعلام والهيئة الطبية وغيرها من الجهات التي يتم تعريتها تارة عبر تورطها المباشر وتارات عبر التقصير في هذا الجانب أو ذلك خصوصا حين يتم معرفة بأن المعتدي هم من رجال الشرطة .
سينما تونسية تذهب إلى منطقة ما بعد الثورة حيث أن السقف أعلى من الحريات فنحن منذ البداية أمام حكاية فتاة من جيل الشباب تتعرض إلى الإغتصاب وتواجه كما من الإشكاليات أقلها التهديد مجددا بالإعتداء تارة والسجن والتشوية في سمعتها وغيرها من التحديات التي تشخص أمامها رافضه ذلك التعسف وتلك الممارسات الخاطئة التي يقوم بها عدد من أفراد الشرطة والمكلفين أصلا بحماية الإانسان والوطن والأمن .
تمضي مريم في رحلتها من أجل الحصول أولا على تقرير من الطبيب الشرعي والذي يحولها بعد كم من التعطيل والتهميش إلى مركز الشرطة وهناك يتم الكشف على الوجه الحقيقى لتلك النوعية من العناصر الفاسدة ولكنها تمضي في تحديها لأنها تعرف جيدا أنها أمام مرحلة جديدة من تاريخ بلادها مقرونة بالنور والفجر والإرادة . إحداثيات ليلة كاملة تبدأ من الفترة المسائية وتنتهي مع الفجر حبلى بالمواقف التي أولها الاغتصاب ونهايتها فجر جديد لكشف تلك الفئة المارقة من رجال الشرطة التي استغلت موقعها ومهنتها وسلطتها وسطوتها.
خلال تواجدها في المستشفى الخاص يتم رفض دخولها لأنها لا تحمل أوراقا رسمية وعندما تنتقل إلى المستشفى الرسمي تواجه كما من المواقف وتلتقي مع صحفية تقوم بإجراء تحقيق تلفزيوني تلح عليها أن تتصل بل وتعطيها رقم هاتفها وحينما تتصل بها مريم وهي تهرب من رجال الشرطة إلى دورة المياه وترجوها بأن لا تتركها لأنها محاصرة في دورة المياه يكون رد الصحفية بإغلاق الهاتف الجوال في وجهها.
سينما شديدة الخصوصية تمتاز بلغتها وتفردها وبصمتها حيث الإحترافية في استخدام الاستدي كام أو الكاميرا المحمولة على الصدر والتي جعلت العمل يحافظ على اإيقاعه وإنسيابيته .
“على كف عفريت” فيلم شديد الثراء في لغته السينمائية وأيضا خطابه الاجتماعي والسياسي حيث تنطلق إلى الحالة التونسية من خلال موضوع الاغتصاب والذي يخلق زلزالا في سلك الشرطة المكلفة بالأمن والتي تتهم وبشكل صريح بالإعتداء والاغتصاب وحجة رجال الشرطة في لملمة الأمر بأن تونس على كف عفريت ولا تتحمل مزيدا من المشاكل والمواجهات .
ولكن مريم لا تستسلم ولا تهدأ حتى وهي قد خسرت أعز ما تملك ولكنها لا تزال تؤمن بأن تونس أمام فجر جديد ونلاحظ مجموعة من الشخصيات التي تقدم الإسناد ومن بينهم الطبيب الشرعي أولا وإحدى العاملات في المستشفى وكذلك شخصية الشرطي الشاذلي التي جسدها بأداء سلس ومتنامى نعمان حمده .
ثمة ملاحظات هامشية هو تنميط عدد من الشخصيات بالذات بعض أفراد الشرطة عبر المكياج تارة وعبر الدلالات الجسدية تارة أخرى ولكن يظل العمل ثريا بالتفاصيل التي تتجاوز تلك الهوامش خصوصا ونحن أمام حالة تواصل رحلتها إلى نهاية المطاف فهي تؤمن بأنها اليوم وقبل أي وقت مضى أمام دولة جديدة ستعمل على تعرية الأخطاء ومعاقبة المتسبب بذلك الخلل والاستغلال للسلطة .
أداء شديد الحساسية تقدمه الفنانة الشابة مريم فرجاني التي تحافظ على حالة الشخصية وتطورها من لحظة البراءة والعفوية إلى الكارثة وتداعياتها النفسية والجسدية المجلجلة وعفوية الأداء والتقمص المقرون بالجرأة العالية لأننا أمام شخصية وفيلم يصرخ ويرفض ويتفجر بالإتهام و يرتكز على مرحلة جديدة وايضا سقف عام من الحريات لولاها لم يجز هذا العمل أو غيره من النتاجات السينمائية والمسرحية التي تعيشها تونس حاليا .
كوثر بن هنية إضافة إلى رصيد السينما التونسية لأنها تنتمي لهذه الحرفة فكرا وحرفية وقبل كل هذا وذاك من جيل يشكل رهانا مستقبليا للسينما التونسية والعربية عى حد سواء. ويبقى أن نقول.. “على كف عفريت” لا ينتهي عندما تضيء الصالة أضواءها بل يبدأ بطرح كم من التساؤلات وهنا أهمية هذه التجربة وقيمتها الإضافية.